لكن رهانها على الربيع العربي بدّل سياستها تلك ووضعها في عين العاصفة. لقد اختارت قطر أن تكون طرفاً في الصراع، بين الشعب والحاكم، لكن ليس أي شعب؛ الإسلامي منه، حيث حضنت الحكام الجدد لأنظمة الربيع العربي. وإن كانت قد تروّت في تونس ثم مصر، في إصدار المواقف الرسمية الحاسمة، وأفسحت لماكينتها الإعلامية «الجزيرة» أن تقود المعركة عوضاً عنها، فإنّها في ليبيا قادت معركة عسكرية لإسقاط معمر القذافي، قبل أن تنصرف إلى الشأن السوري، حيث خسرت صفة «الالتباس» التي طبعت سياستها في الماضي، وذهبت الى أقصى التطرّف وخاضتها معركة مصير وكسر عظم، وحكت عن معادلة إما حمد وإما الأسد، في إشارة إلى الأمير حمد بن خليفة والرئيس السوري بشار الأسد.
لقد بات لقطر الآن أعداء، لا عدو واحد. وباتت تخوض الحرب في سوريا كرأس حربة بين المحورين المتصارعين على أراضي غيرهما وبأشخاص ليسوا لهما.
إذاً، لقد بدّلت قطر سياستها، وجعلت من «الإخوان المسلمين»، في كل مكان، ورقة «الجوكر» لتعزيز طموحها ونفوذها الإقليميين. وتبرز هذه الورقة في مصر أكثر، حيث مركز «الإخوان». لكن هذه الاستراتيجيا خلقت لها أيضاً أخصاماً من قلب البيت الخليجي؛ إخوانها الخليجيون، يتعاملون معها بحذر، ويكيلون لها الاتهامات، ولم يشفع لها غض النظر عن انتفاضة البحرين من أجل حماية «البيت الخليجي»، وكل ذلك بسبب دعمها الجماعة التي «تعتبر أخطر من إيران على أنظمتهم».
ما يميّز علاقة «الإخوان» بقطر عن باقي الأقطار الخليجية أنّ الإخوان نادراً ما يتدخلون في شؤون الإمارة؛ اتفاق ضمني يشبه الى حدّ ما الاتفاق القائم بين محطة «الجزيرة» ودولة قطر؛ فتغطية المحطة تشمل ما يحصل في معظم الأقطار العربية، باستثناء ما يجري في الدوحة، وما يعرض المصالح القطرية للخطر. لكن تأثيرهم يأتي بشكل غير مباشر، وهو فعال. صحيح أن الجماعة قامت بحلّ نفسها، ولم تنتقد النظام القطري، لكن عناصرها نجحوا في التغلغل داخل مؤسسات الدولة القطرية.
كما يبرز اسم هشام مرسي، الذي يحمل الجنسية البريطانية ويعيش في الدوحة، ويُقال إنه صهر القرضاوي. لقد نشط هشام بقوة في الثورة المصرية، وهو يدير منظمة تُعنى بوسائل اللاعنف، ويساهم في موقع «أكاديمي أوف تشانج»، الذي يموّله جاسم سلطان. ويبرز أيضاً وزير الخارجية التونسي، رفيق عبدالسلام، صهر زعيم «النهضة» راشد الغنوشي، والذي كان يترأس قسم الأبحاث والدراسات في مركز «الجزيرة» في الدوحة. وهناك أيضاً الليبي علي الشلبي، الذي وصفته وسائل الإعلام الغربية بأنه مهندس الحكومة المقبلة، وقد عاش في قطر سنوات. وقد ذُكر مرّة أنه طلب مساعدة القيادة القطرية خلال المرحلة الأولى من الثورة الليبية.
هذا إضافة الى تغلغل الإخوان ونفوذهم في «الجزيرة»، وقد عبر عن ذلك آلان غريش بقوله إن «الجزيرة هي ملعقة الإخوان». ويلاحظ أن المراكز الأساسية والحساسة في القناة تتولاها شخصيات إخوانية أو مرتبطة على الأقل بعلاقات حميمة مع الإخوان، مثل المدير العام السابق وضاح خنفر (إخوان الأردن)، ورئيس مكتب عمان ياسر أبو هلالة، ومقدم ومعد البرامج الشهير، أحمد منصور.
ورغم أن معظم الدول، ولا سيما الخليجية، رضخت لسقوط من سقط من حلفائها حتى الآن في الثورات العربية، وحاولت التصالح مع مخرجاتها، كان الدعم المالي القطري سبّاقاً ومتفاوتاً بشكل كبير. وفي مقارنة بين الاستثمارات الخليجية في مصر في فترة ما قبل الإخوان وما بعدهم، يلاحظ أن الاستثمارات الإماراتية كانت قد بلغت 5 مليارات دولار في مقابل 260 مليون دولار فقط لقطر إبان حكم حسني مبارك، فيما كان حجم الاستثمارات السعودية هو الأضخم ببلوغه 12مليار دولار.
ضعف الدعم المالي القطري في فترة ما قبل الإخوان يعود بشكل أساسي الى ضعف العلاقة بين قطر ونظام مبارك، والتي تدهورت على نحو كبير خصوصاً بعد انقلاب الأمير الحالي حمد آل ثاني على والده عام 1996. لكن الوضع تبدل مع وصول الإخوان، حيث أعلنت قطر أنها ستستثمر أكثر من 18 ملياراً خلال السنوات المقبلة. على عكس إخوانها الخليجيين.
دعم قطر لإخوان مصر أطلق العنان لدعمها حركة «حماس» الإخوانية، بحيث كان لها دور أساسي في فك ارتباط حركة المقاومة الفلسطينية مع إيران، وخصوصاً بعد الأزمة السورية، بسبب كرمها المالي والسياسي؛ فلقد احتضنت زعيم الحركة خالد مشعل، وقدمت له الرعاية والإقامة بعد انسحاب مكاتب «حماس» من دمشق. وأعطى الأمير نصراً سياسياً للحركة، حين أجرى زيارة للقطاع برفقة زوجته موزة، حاملاً بجعبته مشاريع استثمارية ومساعدات مالية بقيمة 250 مليون دولار، إضافة إلى عرض نفطي لاستثمار الثروة النفطية المكتشفة في غزة مقابل 500 مليون دولار.
ومع أن الدعم المالي يبرز أكثر في مصر وغزة، فإن قطر لم تبخل على تونس، حيث استثمرت في مشاريع طاقة بقيمة مليوني دولار. لكن هذا الدعم يختفي طبعاً في ليبيا، بما أنّها في غنى عنه، ويكفيها أنها حصلت على الدعم العسكري لإسقاط النظام، فضلاً عن الحصول على الرعاية السياسية.
إلا أن هذا الدعم ليس مجانياً. فإلى جانب الثمن السياسي، فإن قطر استحصلت من هذه الدول على مشاريع استثمارية، ولا تزال، بعشرات مليارات الدولارات، تضع اقتصاديات هذه الدول رهينة في يدها.
وقد تُفسر العلاقة التي جمعت إيران وقطر من الناحية الاقتصادية، بما أنّ الاثنين يتقاسمان أكبر مخزون غازي في العالم، لكن تساؤلات تُطرح حول سرّ الحب القطري للإخوان، الى حدّ المخاطرة عبر تعريض علاقتها مع أشقائها الخليجيين للخطر. وهنا يرى مراقبون أن السياسة القطرية البراغماتية تريد أن تركب الثورات العربية وتعزّز نفوذها الإقليمي، لذلك وجدت في الإخوان حصان السبق الذي سيقودها الى الزعامة الإقليمية.
وفي واحدة من مراحل رصّ صفوف المعارضة السورية وتشكيل الائتلاف المعارض، برزت معارضة سعودية واضحة للشخصيات الإخوانية.
وبسبب الرعاية القطرية للإخوان، حصل توتر خليجي_قطري في عدّة محطات. وإضافة الى الصحف الخليجية والسعودية التي تزخر أحياناً بمقالات وإشارات تعبر عن امتعاض واضح من قطر، كان هناك تصريحات وصلت في بعض الأحيان الى مستوى التهديد، وخصوصاً ما صدر عن ضاحي خلفان وردّه على يوسف القرضاوي. بل بلغ الأمر بالامارات حدّ تأسيس فضائية مهمتها الوحيدة محاربة الإخوان. وغير بعيد، شهدت إحدى جلسات البرلمان الجديد في الكويت (الذي قاطع انتخاباته الإسلاميون المتهمون بالارتباط مع قطر)، سجالاً حاداً تضمن اتهامات لرئيس وزراء قطر شخصياً باحتضان الإخوان وتحريضهم على زعزعة استقرار الأنظمة الخليجية.
ورغم الأمثلة الكثيرة التي تعكس هذا التوتر، حرصت قطر في كل مرّة على طمأنة الخليجيين واحتواء الخلاف. في أيار 2012، قال القرضاوي على «الجزيرة» إنّ دول الخليج ستلقى غضب الله بسبب ترحيلها سوريين الى مصر، فسارع الأمير في اليوم التالي بالسفر الى أبو ظبي، في زيارة غير معلنة، ليطمئن حكام الإمارات الى الروابط الوثيقة بين قطر وبينهم.
سياسة قطر في الخليج اليوم تحديداً، تعدّ امتداداً لمدرستها السياسية، التحالف مع عدوين؛ فهي ترتبط مع أشقائها الخليجيين في حلف وثيق لحماية البيت الخليجي، وفي الوقت نفسه ترعى الإخوان. لكن خارج الخليج، تمارس لعبة جديدة، تضعها في عين العاصفة، وتدخلها في نوع من المغامرة الانتحارية.
لكنّ هذه الإمارة الخليجية الصغيرة تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث نصيب دخل الفرد فيها، والذي يقدّر بـ88 ألفاً و222دولاراً سنوياً، وفقاً لجدول مجلة «فوربس» (عام 2012)، والثانية حسب إحصاءات المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2012، بدخل يتجاوز 98 ألف دولار سنوياً.
وهي ثالث أكبر مصدّر للغاز في العالم. تبلغ احتياطات الغاز لديها 900 تريليون قدم مكعب (أي ما يعادل 14 في المئة من الاحتياطي العالمي). ومع اكتشاف حقل جديد عُرف باسم «بلوك 4 نورث»، يحوي 2 ونصف التريليون، ربما تصبح قطر أكبر مصدر للغاز. تتجاوز موازنتها السنوية 206 مليارات ريال (أكثر من 54 مليار دولار لعام 2012_2013). وقد بلغ فائض الموازنة في الربع الثاني فقط من 2012: 2013.94.6 مليار ريال (أي 26مليار دولار!).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق