لم تكد حرب تموز 2006 تنتهي، حتى انطلق حزب الله في أكبر عملية لإعادة ترميم بنيته العسكرية ورفع مستوى التسليح والتجهيز لمواجهة احتمال تجدد العدوان. وقد تولى الشهيد عماد مغنية مهمة تطوير وتعزيز القدرات القتالية والعسكرية للمقاومة في لبنان، كما تولى تنفيذ قرار اتخذ على أعلى المستويات في إيران وسوريا ولبنان برفد المقاومة في فلسطين بكل الخبرات ودروس الحرب، وتأمين جسر تواصل بشري ودعم لوجستي، وخصوصاً الى قطاع غزة. وكانت دمشق هي المحطة الرئيسية لمتابعة المهمة، ما اقتضى من الحاج رضوان تكثيف زياراته وتنقلاته من سوريا وإليها.
عندما وصل الحاج عماد مغنية إلى خارج بوابة المبنى، وعلى بعد 9 أمتار تقريباً من سيارة من نوع جيب ميتسوبيشي «باجيرو» رصاصية اللون موديل 2006، كانت مركونة عند أقرب نقطة من بوابة المبنى، وقع الانفجار الذي أدى إلى استشهاده بمفرده على الفور.
شُغل حزب الله في التواصل بين قياداته، واتخذ قرار نقل جثمان الشهيد الى بيروت فوراً، وبوشر الاستعداد لإعلام العائلة أولاً، ثم إعداد بيان النعي، والإعداد لجنازة مهيبة تليق بالشهيد الكبير. ومع أن التوتر كان يسود الجميع، إلا أن فرقة متخصصة انتلقت فوراً الى المكان، وباشرت التحقيقات، بالتزامن مع تحقيقات قامت بها السلطات السورية. لم يكن لدى قيادة حزب الله أدنى شك في أن إسرائيل هي من يقف خلف الجريمة. وفي مثل هذه الحالات، تقرأ المقاومة، كما كان يفعل الشهيد نفسه، المعطيات الأساسية، ويكون الاستنتاج في غالب الاحيان صائباً. لكن السؤال ظل: كيف وصلت إسرائيل إليه؟
وأظهرت التحقيقات المكثفة ضلوع العدو الإسرائيلي ومسؤوليته المباشرة عن عملية الاغتيال، كما بينت التحقيقات أن جهاز الموساد الذي كان برئاسة مئير داغان في حينه هو الذي تولى العملية بكل مراحلها. الإعداد المباشر لتنفيذ العملية استغرق أشهراً داخل سوريا وخارجها. أما التحضيرات غير المباشرة، فيرجّح المطلعون على الملف أنها استمرت فترة أطول من ذلك بكثير.
كذلك أظهرت التحقيقات أن الموساد كلّف بعض عملائه المحليين بتصوير منطقة كفرسوسة تصويراً دقيقاً وتفصيلياً، مع شرح لكافة الشوارع فيها، والتركيز على المربع الذي تمت فيه عملية الاغتيال. جرت عملية رصد واستطلاع مربع كفرسوسة، وإعداد ملف كامل، وتزويد استخبارات العدو بالمعلومات التي سهّلت لها العملية. ومن هذه المعلومات طريقة الوصول إلى المربع والخروج منه، وكذلك الطرقات المؤدية إليه أو تلك التي تحتاج إليها المجموعة المنفذة للهرب، إضافة الى تقرير يشير الى أنّ الباحة التي وقع فيها الانفجار لا تخضع لحراسة أمنية، وليس فيها عوائق تمنع دخول أحد، وأنها مفتوحة بحيث يمكن أي زائر الوصول الى هناك. كذلك فإن الباحة تخلو من كاميرات مراقبة ظاهرة في المحلة، وأنّ حركة الدخول إلى المبنى المستهدف والخروج منه محكومة بمخرجين أو مدخلين، من الجهة نفسها، أحدهما سفلي والآخر أرضي.
ودلّت التحقيقات أيضاً على أن عملاء الموساد المحليين قدموا معلومات عن وجود مبنى قيد الإنشاء يحوي شققاً فارغة غير مكتملة، ليتبين لاحقاً أن العدو استفاد من هذا المبنى لتموضع الفريق الذي تولى تنفيذ العملية، لما له من إشراف وإطلالة على المربع والمبنى المستهدف.
1 ــ تأمين فيلا لإيواء سيارة التنفيذ.
2 ــ تفخيخ سيارة التنفيذ.
3 ــ مبيت مجموعة التنفيذ.
وبالفعل، فقد استأجر العميل فيلا في إحدى نواحي دمشق الراقية (قرى الأسد) واستقدم حداداً إفرنجياً وطلب منه فصل مدخل الفيلّا المعتمد للسيارات عن مدخل المشاة بواسطة شبك من الحديد من جهات ثلاث، بحيث بدا كأنه قفص، ولم يعد بالمقدور الدخول إلى الفيلا من هذا المدخل.
بعد فترة عاد العميل الى سوريا واشترى سيارة جيب «ميتسوبيشي باجيرو». ويتضح أنه تم اختيار سيارة «ميتسوبيشي باجيرو» لزرع العبوة المعدّة للتفجير، نظراً لكون عدد من السيارات المشابهة كانت تتردد إلى محلة الاستهداف وتركن حول المكان الذي انفجرت فيه السيارة، ونظراً إلى كون الشهيد كان يستخدم أحياناً سيارة من النوع نفسه. كذلك تم اختيار سيارة أخرى من النوع نفسه ومن بطراز مغاير «ميتسوبيشي لانسر» للفريق التنفيذي، اعتماداً أيضاً على كثرة استخدام هذا الطراز من السيارات في سوريا عموماً. وبعد شرائه، نقل العميل الجيب إلى الفيلا التي استأجرها حيث ركنه في القفص الحديدي، وغطاه بـ«شادر». ثم اشترى لاحقاً سيارة الـ«ميتسوبيشي لانسر»، والتي استخدمت لاحقاً لفرار المجموعة المنفذة.
في الأسبوع الأول من شباط، تم تجهيز جيب «الميتسوبيشي باجيرو» المركون في الفيلا بالعبوة، حيث جرى زرعها في بابه الخلفي. وتبين أن العبوة تحوي الى جانب المادة الشديدة الانفجار كرات حديدية من النوع الذي يصيب الهدف بأضرار كبيرة بصورة فورية. وجاء نوع العبوة مطابقاً لعبوات مشابهة استخدمها العدو في عملية اغتيال لكوادر من المقاومة في لبنان وخارجه.
يتكتّم المحققون والمطّلعون على ملف التحقيقات بشدة حول هوية الفريق المنفذ، لكن الإشارات والمعطيات الظاهرة تشير الى أنهم ليسوا من المواطنين السوريين، وأنهم دخلوا الى سوريا في وقت سابق على التنفيذ بطريقة معينة كتلك التي استعملوها لمغادرة سوريا بعد تنفيذ الجريمة.
عصر 12/02/2008، انطلق أحد المنفّذين بجيب «الباجيرو» المعدّ للتفجير، وركنه في الباحة أسفل المبنى الذي يتردد إليه الشهيد، وذلك قبل التفجير بساعات.
غروب ذلك اليوم، انطلق الفريق التنفيذي بسيارة «الميتسوبيشي لانسر» (سيارة الإخلاء) وكان مؤلفاً من أربعة أشخاص. وبعدما تثبّت هؤلاء من انصراف العمال من المبنى «قيد الإنشاء» المشرف على الشقّة التي كان الشهيد مغنية يتردد اليها في منطقة كفرسوسة، صعد ثلاثة من فريق التنفيذ الى المبنى المطلّ على الباحة والهدف والسيارة المفخخة، واستقروا في شقة تقع في الطابق السادس منه، حيث اقتسموا الأدوار ما بين راصد بالمنظار ومفجر وثالث للحماية. أما المنفذ الرابع، فقد بقي في السيارة ينتظر فريق التنفيذ، وركَن سيارة الإخلاء في الباحة الخلفية للمبنى الذي اتخذوه للتموضع وألصقوها بالسور وبقي السائق بداخلها.
الساعة العاشرة والثلث تقريباً، خرج الشهيد عماد مغنية من المبنى. وما إن وصل إلى رصيف الباحة المضاء، وعلى بعد نحو تسعة أمتار تقريباً من جيب الباجيرو، فجّر الجناة العبوة الناسفة، ما أدى إلى استشهاد الحاج عماد على الفور، ثم نزل المنفذون من المبنى باتجاه السيارة التي كانت تنتظرهم.
استقل الجناة سيارة الإخلاء على عجل نحو أوتوستراد المزّة، حيث تم ترك السيارة على جانب الطريق وترجّلوا منها مخلّفين وراءهم بداخلها بعض الأغراض التضليلية. وتبيّن من أعمال التعقب أن المنفذين واجهوا مشكلة أثناء الانسحاب، ما دفعهم الى ترك السيارة على الطريق واللجوء الى سيارة أخرى للابتعاد بها الى مكان مجهول.
المحرّكون الأمنيون التابعون للاستخبارات الإسرائيلية في لبنان كانوا يعملون على تجنيد أشخاص، وعلى ترشيح أشخاص للتجنيد. وزادت إسرائيل من اعتمادها على عملائها الموثوقين في لبنان، والذين تربطهم صلات جيدة بسوريا، سواء على المستوى الشخصي أو العملي أو الأمني، بهدف تجنيد سوريين.
المفتاح الثاني للتعاون اللبناني ــ السوري في مجال مكافحة التجسس الإسرائيلي، يستند إلى الاتصالات الهاتفية. فالاستخبارات الإسرائيلية تستخدم عادة أرقاماً هاتفية للاتصال بعملائها في لبنان. وهذه الأرقام هي إما أوروبية أو شرق آسيوية، وإما لبنانية يجري تشغيلها داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، في المناطق التي تحظى بتغطية من شبكة الهاتف الخلوي اللبنانية. وبعد انكشاف طريقة العمل هذه، كان الإسرائيليون يتوقفون تباعاً عن استخدام هذه الأرقام. وقد سلّمت الأجهزة الأمنية اللبنانية نظيرتها السورية لائحة مفصّلة تتضمن كافة هذه الأرقام، للتثبّت ممّا إذا كان يجري استخدامها للاتصال بعملاء داخل سوريا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق