برز نتنياهو في خطابه الذي رد فيه على خطاب الرئيس الأميركي في جامعة القاهرة، بالصورة الكريهة نفسها التي عرفها عنه العرب. ولذلك نستطيع أن نقول إنه لم تكن هناك مفاجأة عربية، لا بالخطاب ولا بمضمونه. ولكن مفاجأة العرب جاءت من واشنطن، ومن البيت الأبيض بالذات، حين أبدى الرئيس أوباما ترحيبه بخطاب نتنياهو، معتبرا أن الخطاب يمثل خطوة إلى الأمام.
نبدأ بالحديث عن خطاب نتنياهو، لا لنفصله ولا لنحلله، فقد شاع الخطاب وعمت أفكاره، ولقي من الاستهجان والاستنكار الشيء الكثير، وتم الإعلان عن موقف عربي رسمي ضده من خلال الموقف الذي أعلنه الرئيس حسني مبارك. وما نريد قوله هنا حول خطاب نتنياهو، إنه ليس خطاب رجل واحد، بل هو خطاب جميع رؤساء إسرائيل. فكلهم عملوا حسب الأهداف والمواقف التي أعلنها نتنياهو بشأن الفلسطينيين. الفارق الوحيد أنهم كانوا كلهم كذابين وأن نتنياهو هو الصادق الوحيد بينهم، الصادق الوحيد الذي يقول إن الإسرائيليين يريدون الاستيلاء على الضفة الغربية من خلال الاستيطان، والصادق الوحيد الذي يقول إن الفلسطينيين لا يريدون دولة فلسطينية «مستقلة»، والصادق الوحيد الذي يعترف أن الإسرائيليين لا يريدون حلا متفاوضا عليه بل حلا مفروضا على الفلسطينيين رسم نتنياهو شروطه وتفاصيله في خطابه. كل رؤساء وزارات إسرائيل السابقين، عملوا وتصرفوا وتفاوضوا حسب هذه البنود التي أعلنها نتنياهو. ولكنهم اختلفوا عنه بأمر واحد، هو أنهم كانوا يسايرون واشنطن، يسايرون سياستها المعلنة، ويقولون إنهم يوافقون على إنشاء دولة فلسطينية، ومن خلال التفاوض، ثم يرسمون على الأرض كل الوقائع التي تجعل تحقيق ذلك أمرا مستحيلا.
ومن يستغرب وصف الأمور بهذه الطريقة، عليه أن يستذكر ولو قليلا، شريط التفاوض الفلسطيني مع إيهود أولمرت، ومع آرييل شارون، ومع إيهود باراك. ماذا فعل كل هؤلاء؟ من أفشل مفاوضات كامب ديفيد 2000 سوى إيهود باراك؟ من دمر الضفة الغربية ودمر أجهزة السلطة الفلسطينية، وأمر ببناء الجدار الفاصل غير آرييل شارون؟ من كثف الاستيطان وضاعفه مرات ومرات غير إيهود أولمرت؟ إن ما طالب به نتنياهو في خطابه هو ما مارسه كل هؤلاء أثناء حكمهم.
أما الجديد في مسيرة نتنياهو، فهو أنها تأتي في لحظة سياسية يتكاثف فيها تطور المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، ونحو اليمين المتطرف الذي ينطوي على سمات عنصرية بالغة الوضوح. إن ظواهر هذا التطور موجودة وبارزة منذ زمن، ولكنها تتكثف من مرحلة إلى مرحلة، ومن انتخابات نيابية إلى انتخابات نيابية جديدة. ومن يدرس بنية الكنيست الإسرائيلي الأخير، يجد أن نسبة الأحزاب اليمينية المتطرفة فيه قد أصبحت هي اللون الغالب. إن هذا التطور في بنية المجتمع هو الأمر الخطير في إسرائيل، وهو ما يجب أن يلفت الأنظار أكثر من خطاب نتنياهو، فحين يتطور المجتمع بهذه الوجهة، فإن الوضع يتجاوز نوايا هذا الزعيم أو ذاك، ويصبح نهجا مؤهلا لأن يفرض نفسه. وبخاصة حين يتضح أن يمينية وعنصرية الأحزاب الإسرائيلية، تجد لنفسها تطبيقات عملية تسير في اتجاهين متناقضين، الأول: رفض البحث في حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة من حيث المبدأ، والثاني: التفكير الجديد بضرورة تهجير من بقي متواجدا من الفلسطينيين فوق أرض وطنهم (مليون ونصف مليون فلسطيني). لقد أصبحت الأحزاب الداعية لهذا التوجه متواجدة داخل الكنيست، وأصبح وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان من المبشرين علنا بضرورة هذا التوجه.
إن مجتمعا إسرائيليا يتطور بمجمله نحو اليمين، ونحو اليمين المتطرف، ليس مسألة سياسية أو أخلاقية فقط، بل هو أمر ينذر بصدامات وحروب مقبلة. وهذه هي الرسالة الاستراتيجية العميقة التي ينطوي عليها خطاب نتنياهو، فلهذه المسيرة السياسية المتضامنة مع هذا النوع من المسيرة الاجتماعية، نتيجة حتمية واحدة هي الحرب، الحرب في الداخل (الترانسفير)، والحرب خارج الحدود بين الدول. ومن واجب ومسؤوليات الحاكم العربي وقد سمع خطاب نتنياهو وقرأه أن يدرك ذلك، وأن يبدأ بتهيئة بلده لمواجهة حالة الحرب هذه.
بعد خطاب نتنياهو لا بد من وقفة عند رد الفعل الأميركي على الخطاب. لقد رحب الرئيس الأميركي بالخطاب واعتبره خطوة إيجابية إلى الأمام لأنه ذكر كلمة (الدولة الفلسطينية). قفز عن كل ما ورد في الخطاب من شروط ومطالب، وتمسك بكلمة (الدولة الفلسطينية).
لقد جاء موقف أوباما هذا، بعد حملته الكبيرة التي رفعت شعار «التغيير» على مستوى أميركا وعلى مستوى العالم. وجاء موقف أوباما هذا بعد خطابه «الإسلامي» في جامعة القاهرة، داعيا الفلسطينيين والمسلمين والعرب إلى علاقة من نوع جديد، ولقيت مواقف أوباما هذه ترحيبا وتفاؤلا في أوساط الفلسطينيين والعرب والمسلمين. ولكن ترحيب أوباما بخطاب نتنياهو، والقفز عن كل مضمونه من أجل التمسك بكلمة واحدة فقط، أثار دهشة شاملة، إن لم نقل استغرابا شاملا، إن لم نقل انزعاجا شاملا. وهذه الدهشة، وهذا الاستغراب، وهذا الانزعاج، ليس مسألة نفسية فقط، بل هي نوع من التساؤل حول مدى جدية أوباما بشعار التغيير الذي رفعه. وهو نوع من التساؤل حول مدى جدية أوباما في التبشير بسياسة أميركية جديدة في التعامل مع إسرائيل، ومع تسويفها الدائم الذي خرب كل محاولات التسوية السياسية في كل المراحل السابقة.
لقد كانت أميركا في السنوات السابقة كلها، شريكة مع إسرائيل في كل عمليات التسويف والخداع عبر المفاوضات. كانت تقبل من إسرائيل موافقة لفظية على مواقفها ونقضا واقعيا وعمليا لها. وكانت تقدم لها بعد ذلك التغطية السياسية اللازمة، بدءا من مجلس الأمن حيث كان الفيتو الأميركي جاهزا دائما لدعم إسرائيل وحمايتها من الغضب العالمي، وانتهاء بالمفاوضات السياسية، حيث كانت واشنطن تدعم إسرائيل في تثبيت قواعد التفاوض التي تريدها، وهي قواعد للتفاوض تتلخص برفض الاحتكام للقانون الدولي أو للشرعية الدولية. (أراض متنازع عليها وليست أراضي محتلة - القرار 242 مطروح للتفاوض حوله وليس لتطبيقه.. إلخ).
وحين جاء أوباما بدعوته للتغيير، وشدد على موقفه بضرورة وقف الاستيطان، تفاءل الفلسطينيون خيرا. أما حين أعلن ترحيبه بخطاب نتنياهو الذي لم يتضمن قبولا بوقف الاستيطان، فقد تحول التفاؤل إلى تشاؤم، والتشاؤم في الصراع العربي ــ الإسرائيلي يعني أن حالة المقاومة، وأن حالة الحرب، ستعود إلى سابق عهدها.
بعض المحللين الأميركيين يقولون إن على العرب أن لا ينزعجوا من شروط نتنياهو، فهي شروط للتفاوض، ولكن هذا الرأي مرفوض، فالمفاوضات السابقة كلها، بدأت وفشلت، بسبب هذا المنهج، لأنه منهج للتفاوض حسب موازين القوى بين الفلسطينيين وبين الجيش المحتل، حيث الغلبة دائما لجيش الاحتلال المهيمن. فإما أن تقبل شروطه وإما أن تفشل المفاوضات، ولذلك نمت الحاجة إلى موقف أميركي يضع مرجعية جديدة للمفاوضات، مرجعية القانون الدولي والشرعية الدولية. وهذا ما تفاءل الفلسطينيون والعرب بأن الأمور سائرة إليه، ولذلك فإن مفاجأتهم كانت كبيرة حين سارع أوباما إلى امتداح خطاب نتنياهو والترحيب به. لقد فهم الجميع من ذلك أن أمور التفاوض ستبقى على حالها. ومعنى هذا أن لا تغيير في الموقف الأميركي من الموضوع الفلسطيني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق