مبروك عدم فوز المعارضة في لبنان! لا بل ألف مبروك، لأسباب كثيرة. صحيح أن أحزاب المعارضة في أي بلد قد تشعر بخيبة أمل كبرى عندما تفشل في الوصول إلى السلطة من خلال صناديق الاقتراع. وهذا من حقها تماماً. لكن الوضع في لبنان وفلسطين مختلف تماماً، وذلك لأن المعارضة في هذين البلدين ليست في وضع مثالي لاستلام السلطة، فهي تضطلع بمسؤولية أخطر وأكثر ضغطاً عليها من مسؤولية تولي الحكم. إنها في حالة مقاومة، إن لم نقل في حالة حرب، وبالتالي، فإنه من الأفضل لها أن لا تخلط بين المهمتين أبداً، فيذهب ريحها في المناورات والأعباء السياسية اليومية، فتتوانى عن المقاومة لتصبح مثل ذلك الشخص الذي وقف في منتصف السلم، فلا الذين على السطح ولا الذين على الأرض شاهدوه.
زد على ذلك أن المقاوم الجيد ليس بالضرورة قائداً جيداً في السياسة. ولو قرأ الشعب الفلسطيني تاريخ بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، لربما تردد في اختيار حركة حماس لحكمه. فمن المعلوم أن الشعب البريطاني لم يصوت لوينستون تشيرشل بعد الحرب، بالرغم من انتصاره الساحق على هتلر، على اعتبار أن من ينجح في الحرب قد لا ينجح في الحكم. وبالتالي اختاروا شخصاً آخر لقيادتهم، ناهيك عن المطبات الخطرة التي قد يواجهها المنتصرون عندما يدخلون حلبة السياسة.
وقد كتبت مقالاً في السابق بعنوان "الآن عرفنا لماذا سمحوا لحماس بالفوز بالانتخابات" قلت فيه إن القبول بدخول حماس اللعبة السياسية والفوز في صناديقها وقتئذ كان خدعة كبيرة لتوريط الحركة وإشغالها عن مهمتها القتالية التي كانت تقض من خلالها مضاجع إسرائيل. وهذا ما حدث فعلاً.
آه كم كان بعضنا مغفلاً عندما صفق لفوز (حماس) ومن ثم صعودها إلى سدة الحكم في فلسطين! لو كنا أبعد نظراً لكنا قد بكينا، وذرفنا الدموع وقتها على تلك اللعبة الخبيثة التي يحصد الشعب الفلسطيني نتائجها الوخيمة هذه الأيام حصاراً واقتتالاً وتناحراً وجوعاً وعدواناً!
لم يعد يخفى على أحد أن تسهيل اشتراك حركة حماس في الانتخابات ووصولها إلى السلطة كان مجرد قشرة موز أو فخ منصوب بدهاء شديد. فقد رأى الإسرائيليون والأمريكيون والأوروبيون وأزلامهم العرب والأسلويون أن حركات المقاومة عصية على التركيع والترويع، ومن الصعب كسر شوكتها بالوسائل العسكرية التقليدية، خاصة وأن تلك الحركات أثبتت تاريخياً قدرة عظيمة على هزيمة المحتلين في الجزائر وفيتنام ولبنان وغيره. فكان لا بد من إيجاد طريقة لحرفها عن مسارها، ومن ثم تمييعها.
ومن سوء الحظ فقد ابتلعت حركة (حماس) الطعم، وتخلت عن المقاومة، بحجة أنها ستحمل السلاح في يد والكومبيوتر في اليد الأخرى. لكن ألم يأت فوز الحركة وبالاً على الشعب الفلسطيني؟ ألم يحقق كل ما خطط له الخبثاء في تل أبيب؟
ما إن تسلمت حماس السلطة حتى طالبوها بالاعتراف بإسرائيل بحجة أنها ملزمة باحترام الاتفاقيات الدولية الموقعة بين منظمة التحرير والدولة العبرية. وكان ذلك المطلب بداية تطويق الحركة وإفراغ انتصارها الانتخابي من مضمونه ومن ثم محاصرتها. فرفضت الحركة طبعاً. لكن نتيجة الرفض جعلت القوى الفاعلة دولياً تفرض على الشعب الفلسطيني حصاراً مرعباً أوصل الكثيرين إلى حافة الجوع، ولم يستلم الموظفون رواتبهم لشهور وشهور. وقد توجت إسرائيل مخططها بالعدوان الأخير على القطاع الذي بات يترحم سكانه على أيام زمان.
هل كانت تريد إسرائيل أكثر من أن ترى الحركة التي كانت تقض مضاجعها في الماضي وهي الآن منخرطة حتى أذنيها في معارك ضارية ضد حركة فتح في قطاع غزة والضفة الغربية بعيداً عن الصراع مع المحتلين؟ هل ما زالت (حماس) تحظى بنفس القدر من الاحترام في الشارعين الفلسطيني والعربي؟ ألم تفقد الكثير من هيبتها؟ ألا يردد الشعب الفلسطيني في أعماقه هذه الأيام البيت الشهير: رب يوم بكيت فيه، فلما صرت في غيره بكيت عليه؟ ألم يكن البعض محقاً عندما اعتبر تورط (حماس) في اللعبة الديموقراطية خطيئة كبرى على ضوء انجرارها إلى الاقتتال الداخلي الآن، وجعل أعداءها يمعنون في تضييق الخناق على الشعب الفلسطيني؟
ولو كنت محل اللبنانيين الحزينين على عدم فوز المعارضة في الانتخابات، لحمدت الله على تلك النتيجة، لأن فوز المعارضة كان سيدفع بلبنان إلى نفس المصير الفلسطيني. فإسرائيل وأمريكا ومعهما عرب الاعتدال كانوا بالمرصاد لمعاقبة الشعب اللبناني على تصويته للمعارضة كما فعلوا مع الشعب الفلسطيني. وأعتقد أن أمين الجميل كان على صواب عندما خيّر اللبنانيين بين التصويت لحزب الله وتحويل لبنان إلى غزة ثانية، وبين التصويت للموالاة وإنقاذ البلاد. صحيح أن الجميل كان له مقصد آخر تماماً من تحذيره المذكور، حيث كان يريد من اللبنانيين أن يبتعدوا عن المقاومة واللجوء إلى الاستسلام لإسرائيل وأمريكا، لكن رب رمية من غير رام.
وليس هناك شك بأن الكثير من اللبنانيين صوتوا للموالاة ليس حباً فيها، بل لتجنيب بلدهم ما حدث للفلسطينيين من حصار دولي وعربي، وربما عدوان إسرائيلي جديد بسبب تصويتهم للمقاومة.
وحتى لو فازت المعارضة اللبنانية فإنها كانت سترث فساداً ووضعاً مأساوياً على كل الأصعدة، وبالتالي دع الموالاة تقلع شوكها بأيديها. زد على ذلك أن القوة في لبنان لمن يمتلك القوة بغض النظر عما أفرزته صناديق الاقتراع بشهادة الفائزين أنفسهم. فالكلمة الأخيرة للمقاومة. وأعتقد أن جماعة الرابع عشر من آذار لن ينسوا ما حصل لهم في السابع من أيار، ولا أظن أنهم سيكررون نفس الخطأ.
أما الذين يزعمون أن هزيمة المعارضة نزلت على إسرائيل برداً وسلاماً، فإنهم مخطئون، فحزب الله في المقاومة أخطر على إسرائيل منه في السلطة. وليس عندي شك بأن الإسرائيليين كانوا يتمنون فوز المعارضة لكي يبرروا عدوانهم على لبنان لاحقاً. لهذا يجب أن لا نصدق الأكاذيب الإسرائيلية التي احتفت بهزيمة المعارضة في الانتخابات.
إذن لا تكرهوا شيئاً عسى أن يكون خيراً لكم. فمن الأفضل لحركات المقاومة الابتعاد عن إغراءات السلطة وشراكها؟ أليس حرياً بحركة المقاومة اللبنانية ممثلة بحزب الله أن لا تتورط كثيراً في لعبة السلطة إذا كان لها أن تحافظ على هيبتها ومكتسباتها؟
أليس حرياً بالمقاومين إذن أن يظلوا في مواقعهم النظيفة، وأن لا ينجروا إلى ملاعب السياسة القذرة، كما فعل كل الثوريين الأنقياء على مدى التاريخ، مع الاعتراف بأن الثورات ينجزها الشرفاء ويرثها الأوغاد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق