الجنرال آدم، الذي تمّت إقالته على خلفية إخفاقات الجيش في حرب لبنان الثانية، صيف العام 2006، لم يدّع النبوءة، وإنّما أدلى بدلوه استناداً إلى التقارير السرية التي عكفت على إعدادها الأجهزة الأمنية المختلفة في الدولة العبرية، وبعد مرور سنة على هذا التصريح شنّت إسرائيل عدوانها الهمجي على لبنان، وتمكنت المقاومة اللبنانية، بقيادة حزب الله، على الرغم من عدم التكافؤ في القوة العسكرية كماً ونوعاً، من دحر الجيش الذي لا يُقهر، الأمر الذي أدخل أقطاب دولة الاحتلال إلى حالة من الهستيريا، ليس فقط بسبب الفشل المدّوي، بل لأنّ إسرائيل فقدت قوة الردع التي طالما هددت العرب بها.
وفي أواخر العام 2008 وبداية العام الجاري 2009، أطلق صنّاع القرار في تل أبيب العنان للجيش، الذي انقض على غزة، وقتل المدنيين، وأكثريتهم من الأطفال، ودمّر المدارس، وارتكب جرائم الحرب المقززة، وأحرق الأخضر واليابس، ولكنّ المقاومة الباسلة صمدت على مدار 32 يوماً، في مواجهةً أعتى جيش في العالم، الذي لم يُحقق الأهداف من الهجوم البربري، الأمر الذي عاد على إسرائيل سلباً.
المعادلة اختلطت بالأوراق غير المحسوبة، وقوة الردع التي حاولت إسرائيل استعادتها فُقدت مرّة أخرى خلال سنتين ونيّف، واللافت في الحربين، حرب لبنان وحرب غزة، أنّه للمرة الأولى تتمكن قوى مقاومة عربية من نسف الدوكترينا (كلمة لاتينية الأصل معناها التعلم، وتستعمل في مجال العلاقات الدولية للدلالة على وجود سياسة معينة ومحددة ومدروسة لمواجهة أي وضع قد ينشأ وكيفية معالجته) التي وضعها من يُسمى بمؤسس الدولة العبرية، دافيد بن غوريون، والتي نصت على حسم المعركة بسرعة فائقة وعدم السماح للعدو بتحويل العمق الإسرائيلي إلى ساحة حرب، وهي الدوكترينا التي طُبقت بحذافيرها في عدوان العام 1967، التي نحيي اليوم الجمعة، الخامس من حزيران (يونيو) ذكراه الـ42.
وعندما نقول إنّ الدولة العبرية تُخطط لشن عدوان ضد لبنان وربما أيضاً ضد سورية، فإننّا نرتكز على عدة معطيات موضوعية وعملية وعلمية:
*أولاً: من نوافل القول إنّ العدوان الذي شنته الدولة العبرية في العام 1967 على مصر عبد الناصر وعلى سورية وعلى الأردن، جاء في فترة كان الاقتصاد الإسرائيلي يعاني فيها من الكساد، وقبل شهر تقريباً أعلن محافظ بنك إسرائيل، ستانلي فيشر، رسمياً أنّ إسرائيل دخلت إلى مرحلة الكساد الاقتصادي، وبسبب الأزمة المالية العالمية وبسبب تبذير خزينة الدولة العبرية على التسلح على جميع أشكاله، فإنّه لا أمل يبدو في الأفق لخروج إسرائيل من هذه الأزمة، وبالتالي فإنّ الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو شن العدوان على لبنان أو على سورية، أو على الاثنتين معاً، لانقاد الاقتصاد الإسرائيلي، كما حدث في العام 67.
*ثانياً: تدريب الجبهة الداخلية الذي جرى هذا الأسبوع، وهو أكبر تدريب عرفته الدولة العبرية على محاكاة حرب شاملة أو هجوم على العمق الإسرائيلي، هو دليل أخر على أنّ وراء الأكمة ما وراءها، ومحاولة قادة إسرائيل طمأنة الدول العربية بأنّ التدريب ليس استعداداً للحرب ما هو إلا ذر للرماد في العيون، ويمكننا الترجيح بأنّ ما سمحت الرقابة العسكرية الإسرائيلية بنشره عن التدريب في وسائل الإعلام المختلفة هو النزر اليسير والقليل القليل، أو كما نقول بلغتنا العامية الجميلة "المخفي أعظم". وهذه الرقابة التي لا تسمح بنشر التفاصيل الصحيحة والدقيقة إلا لماماً، غير موجودة في العالم الديمقراطي، ولكنّها تسيطر بيد من حديد ونار على مجريات الأمور في "واحة الديمقراطية الإسرائيلية"، من هنا نقول إنّ إسرائيل تعاني من حالة من الهستيريا، ناهيك عن أنّ الحكومة التي تقودها هي أكثر حكومة متطرفة ومتشددة منذ إقامتها على أنقاض الشعب العربي الفلسطيني، وتصريح المأفون أفيغدور ليبرمان، في موسكو بأنّ بلاده لن تهاجم إيران، يحمل في طياته أبعاداً خطيرة، فلماذا لم يقل مثلاً إنّ بلاده لن تُهاجم لبنان أو سورية؟.
*ثالثاً: الخميس الرابع من حزيران (يونيو) كُشف النقاب عن أنّ المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة الشرق الأوسط، جورج ميتشيل، صرّح بأنّ إسرائيل كانت تكذب على واشنطن، وأنّ الإدارة الحالية قررت أنّه لا كذب بعد اليوم، وهذا يقودنا إلى المواجهة أو الصدام، ربما المفتعل، بين تل أبيب وواشنطن، على خلفية رفض الحكومة الإسرائيلية تجميد جميع أشكال الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة والإعلان أنّها ملتزمة بمبدأ "دولتين لشعبين".
التوليفة الحكومية التي يرأسها نتنياهو لا تسمح له، حتى لو أراد، بالانصياع للمطالب الأمريكية، وبالتالي فإنّ أمامه خيارين أحلاهما مراً: الصدام مع واشنطن، أو الموافقة على مطالبها، وهذا يعني أن الحكومة ستكون على كف عفريت، لأنّ الأحزاب التي تنضوي تحت كنفها، ترفض أيّ نوع من "التنازلات" للفلسطينيين، ومن هنا، يُطرح السؤال المنطقي: كيف يتخلص نتنياهو من الضغوط الأمريكية ومن دفع ما يُسمى باستحقاقات عملية السلام؟ الحل الوحيد باعتقادنا المتواضع هو التوجه للحرب لصرف الأنظار عن القضية الحقيقية، وبموازاة ذلك تواصل الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية. نكتب هذه الأمور مع أننّا على اقتناع تام بأنّ أمريكا وأوروبا لن يتنازلوا عن الدولة العبرية الاستعمارية التي أقاموها، وما زالوا يعتبرونها الحليف الإستراتيجي الأول في المنطقة، ويزودونها بأكثر الأسلحة تطوراً وفتكاً، وعليه فإننّا نعتبر الصدام الإسرائيلي الأمريكي محدود الضمان.
*رابعاً: في السابع من الشهر الجاري، أي يوم الأحد القادم، ستجري الانتخابات اللبنانية، وبات من شبه المؤكد أنّ النصر سيكون حليف حزب الله وقوى المعارضة المتحالفة معه. وفي هذه العجّالة علينا أن نتذكّر تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بأنّ فوز حزب الله في الانتخابات، يعني تحول الحزب إلى حكومة تقود لبنان، الأمر الذي سيسب خللاً في موازين القوى التي تحكم العلاقات الدولية، وفق تقديرات الأجهزة الأمنية في إسرائيل. علاوة على ذلك، يجب أن نتذكر ما صرح به الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الأسبوع الماضي، بأنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تبخل بالأسلحة لجيش لبنان، وبالتالي فإنّ القلق الإسرائيلي نابع من تحول حزب الله من تنظيم إلى دولة مدعومة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على الرغم من تحفظاتنا على سياستها في العراق، وفوز حزب الله شبه المؤكد أضاء الشارات الحمراء لدى صنّاع القرار في تل أبيب، وعليه لا نستبعد البتة أن تستغل إسرائيل هذه الانتخابات ونتائجها وتفتعل أزمة لتبرير العدوان على لبنان، بالتواطؤ مع عدد من حلفائها غير المعلنين في بلاد الأرز.
*خامساً: كما قلنا في البداية فإنّ إسرائيل التي عربدت على المنطقة باتت في حالة هلع شديد من فقدانها قوة الردع، فحرب لبنان وحرب غزة، أفقدا الدولة العبرية قوة الردع، وبالتالي فإنّها بحاجة ماسة إلى القيام بعملية عسكرية ضد لبنان أو ضد سورية لاستعادة قوة الردع المفقودة. الحكومة الإسرائيلية الحالية تلعب بالنار، وبات من المؤكد أنّها ستحرق أصابعها وأصابع حلفائها الأمريكيين والأوروبيين إذا لم يتم كبح جماح غرورها ونزعاتها العدوانية قبل أن تورط العالم بأسره في كارثة جديدة، لأننّا نعرف كيف تبدأ الحرب، ولكن لا أحد يعلم كيف ومتى ستنتهي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق