الأحداث التي مرت بها المنطقة في الفترة الأخيرة تعطي الكثير من المؤشرات عن الصورةالتي ستكون عليها المنطقة في الفترة المقبلة، فمن فلسطين المحتلة، من الدولةالعبرية، ومن السلطتين الفلسطينيتين، مروراً بلبنان، وحتى إيران، لا بد من النظروالتمحيص والتدقيق، في المشاهد والصور المتشكلة، وأثرها القريب والبعيد.في الدولة العبرية، تجري انتخابات برلمانية يحكمها سقف العنصرية والفاشية التي قامت عليها هذه الدولة، وتتم هذه الانتخابات بحرية تفرز من يريدهم المغتصبون في هذا الكيان العنصري، مع بعض الإضافات الشكلية من برلمانيين عرب.ومنذ قيام هذه الدولة وحتى اليوم، لم تحدد حدودها، وعندما قرر الرسميون العرب، بدء الهجوم السلمي على الدولة العبرية، و(إحراجها) أمام العالم، وإظهار رفضها لتوسلهم سلامها، جنحت الدولة العبرية للهجوم الانبطاحي الإحراجي العربي، وقامت بالتجاوب معه، بأن خاضت معهم معركة شرسة من المفاوضات التي بدأت ولن تنتهي، واستثمرت هذه المفاوضات في تنفيذ مشاريعها على الأرض، واستمرت اللعبة، حتى أصبحت ما عرفت ب(عملية السلام) هي المطلب، وليس ما ينتج أو ما يمكن أن ينتج عنها، وكلما ثبتت الدولة العبرية حقائق على الأرض، زاد الرسميون العرب من إحراجهم لها أكثر، بإصرارهم على هجومهم الانبطاحي تحت أقدامها، حتى وصل بهم الأمر للترويج لمبادرتهم للمستوطنين في الصحف ولوحات الإعلانات فيها، وكان ذلك على أبواب الانتخابات البرلمانية، وخدمة لمن ذبحوا أكثرمن ألف وسبعماية فلسطيني في غزة وعدداً مقارباً في لبنان قبلها بسنتين ونصف، ولكن حصلت المفاجأة، فحتى آلاف الأرواح العربية والمسلمة التي أزهقت في غزة ولبنان، لم تشفع لمن أرادهم الرسميون العرب أن يفوزوا، واختار الشعب الصهيوني من اعتبر أنهم كلما ضغطوا على العرب وتنكروا لهم، زاد الرسميون العرب انبطاحاً واستسلاماً، فاليهودي تاجر، والعرب دفعوا الثمن سلفاً، ومصرون على عدم المطالبة بالبضاعة التي دفعوا ثمنها، وهو ليست لديه الرغبة بمنحهم أي بضاعة، وبهذا شكلت نتيجة الانتخابات في الدولة العبرية، صفعة لكل من يوصفون بالمحرجين العرب، وكانت آخر الصفعات في خطاب نتنياهو الأخير، الذي وضعهم أمام التساؤل الكبير، والحقيقة الصادمة.الطرف الثاني في المعادلة الإقليمية هو الطرف الإيراني، فالإيرانيون يحظون بنظام انتخابي نصف ديمقراطي، يخضع لضوابط وسقف كما في غيره حتى في أعتى الديمقراطيات في العالم،وبغض النظر عن التنازع ما بين تيارين في هذا النظام، وما سيؤول إليه هذا التنازع،إلا أن الشعب الإيراني أثبت أنه شعب حي، وخرج أنصار موسوي إلى الشارع يومياً للدفاع عما يعتقدون أنه حقهم، وكذلك فعل خصومهم السياسيون.لإيران طموحات إقليمية، وهي دولة موجودة، لا مصطنعة كما الدولة العبرية، وبعض هذه الطموحات تتعارض مع ما يطمح له العرب، وبعضها محمودة، كدعمها للمقاومة في لبنان وفلسطين، وفي المحصلة هم لهم طموحات للعب دور يوازي ما يعتقدون أنه حجمهم وأهميتهم في المنطقة.وإيران كما غيرها محكومة بمؤسسات تتحكم باستراتيجياتها على مستوىالعالم والمنطقة، وبأي طريق سار التنازع على السلطة، فالتوجهات الاستراتيجية للدولةهي هي، وبالتالي ليس التنازع الحالي إلا تنازعاً بين لغتي خطاب، كما كان التنازع بين الجمهوريين والديمقراطيين، وتبين بعد قليل من التجربة، أن أوباما ليس إلا بوش بجلد أسود.في لبنان، جرت انتخابات شارك فيها حزب الله عمود المعارضة اللبنانية، ولا يخفى على أحد ما آلت إليه نتيجة الانتخابات، وبالرغم من أن النظام الانتخابي اللبناني نظام طائفي تكون نتائجه محسومة سلفاً، وبالرغم من أن التجييش الطائفي والمالي لعب دوره في النتيجة، إلا أن العامل الرئيس كان هو الصراع الطائفي الذي تم، في ظل نظام انتخابي ونظام سياسي طائفي، ويسهل هذا التجييش تحكيم عقلية القبيلة بدل التوجهات السياسية في الاختيار الانتخابي.حصلت ثلاث تجارب انتخابية متلاحقة، من إيران والدولة العبرية والانتخابات اللبنانية، ويربط بين هذه التجارب الثلاث، روابط مشتركة كثيرة، مع أن الأطراف بينها من التنابز والعداء الذي يبرز في أكثر من ميدان، مع أن هناك من يرى غير ذلك.فالتجارب الثلاثة لا إمكانية فيها إلا أن تنتج تشكيلات سياسية محددة، تختلف في الشكل لا في الجوهر، فالتركيبة العضوية لهذه الكيانات الثلاث لا تسمح بغير ذلك، عضوياً وسياسياً، ولكن من يحاول أن يشب عن الطوق، فهناك نظام ومؤسسة قوية تمنعه وتزجره وتعيده للتحوصل في البوتقة التي صنعت له، وتمنعه من لعب دور أكبر من المرسوم له، وكل طموحات في هذا الباب، يتم السيطرة عليها بطرق متعددة، مع أن هناك بعض الفروقات الشكلية التي من الممكن ملاحظتها تبعاً للدين والعرق والجغرافيا والثقافة وطبيعة الدولة والطوائف وغيرها.بعد أن وضعت المعركةالانتخابية أوزارها في لبنان، بدأ الكثيرون يقولون ويتساءلون عن إمكانية تأثيرالتجربة الانتخابية في لبنان على ما يمكن أن يكون تجربة انتخابية قادمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهناك من كتب مقالات، والبعض بدأ بتنظيم استطلاعات على المواقع الالكترونية، وكان لا بد من دراسة المشترك والمختلف بين ما يمكن أن يكون انتخابات فلسطينية، وبين ما تم من انتخابات لبنانية وغير لبنانية، لأنني أعتبر أن الارتباطات بين أضلاع المربع الأربعة موجودة، ولكنها بمجملها، لا تتفق جوهرياً مع الواقع الفلسطيني، فالأطراف الثلاث السابقة، وخاصة اللبنانية، لا يمكن أن تشب طائفةعن طوقها وتتبوأ مركزاً أكبر، والنظام الطائفي كفيل بذلك، وكلنا شاهد ماذا جرى لحزب الله، وكيف كان إشعال الجدل الطائفي والأضواء الحمراء، كفيلة بمحاصرته في طائفته،وبعد هذا الحصار، صار بالإمكان عقد صفقة الطوائف في لبنان، والأمور تسير نحوالهدوء.أما في الضفة الغربية وقطاع غزة، فلم يحظ الفلسطينيون إلا بانتخابات تحت ظل الاحتلال، وكان منها جولتان ذواتا طابع برامجي سياسي، واحدة للبلديات في السبعينات، ولفظ حينها الشعب الفلسطيني روابط القرى، وانتخب الحركة الوطنية ورفض الدور الوظيفي، وواحدة عندما قررت حماس وعدد من الفصائل أن تخوض الانتخابات التشريعية والبلدية مقابل حركة فتح عام 2006م، طبعاً لم نذكر الانتخابات التشريعية الأولى، لأنها كانت انتخابات فتحاوية- فتحاوية، ولم تخض على أساس برامج سياسية.منذ الانتخابات وحتى اليوم نعلم ما جرى، ولا حاجة للحديث عن مواضيع أشبعت تفصيلاً، ولكن من الواضح لكل ذي عقل، أن حركة حماس بنهجها وطرحها السياسي مطلوب استئصالها فيزيائياً وفكرياً وسياسياً، وأن كل المحاولات التي تتم حتى اليوم تصب في هذه الخانة، وتعتبر حركة حماس هي الوحيدة في التجارب الانتخابية التي اخترقت الطوق والسقف الذي وضع لها، طبعاً السقف السياسي، ورفضت أن تقبله، وهذاالخرق، تطلب من كل الأطراف المحلية والاقليمية والدولية أن تعمل على القضاء على تجربتها، لأنها (خرقت قواعد اللعبة)، وعندما نتجاوز كل المحاولات التي تمت لاستئصال حماس بنهجها فيزيائياً، ونذهب إلى التأثيرات الانتخابية في المنطقة عليها، نستنتج الآتي:-*** حركة حماس وضعت سقفها السياسي بناءً على قناعاتها وعقيدتها، وليس بناءً على اعتبارات طائفية أو عرقية أو دينية، وبالتالي فهي بطرحها السياسي تجاوزت الطوائف والمذاهب والأديان والحدود أيضاً، خاصة وأن فلسطين تقريباً ذات لون مذهبي واحد، وهذاالطرح السياسي الشامل أعطى حماس ميزة لا يتمتع بها غيرها، فهي إستراتيجية التمسك بالحقوق الثابتة، لا بالخضوع لسقوف يحددها لها الآخرون، ولذلك ظلت محاولات ثنيها وتحجيمها، تبوء بالفشل الذريع حتى الآن.*** ثبت بالتجربة الفشل الذريع لكل النهج الإحراجي والانبطاحي والاستسلامي والواقعي، وبالتالي تبين للجميع، ان ما كانت ولا زالت تقوله حماس، هو الصحيح، وأن ما كان يتم هوفقط كسب للوقت لتنفيذ مخططات معدة مسبقاً، ولم يكن هناك أي نية لمنح الفلسطينيين حدوداً دنيا مما كانوا يطالبون به، وأفصح عن ذلك نتنياهو في خطبته الأخيرة، وبيّنت الإشادة الأمريكية والأوروبية بما جاء في الخطاب عن عمق الأزمة التي يعيشها الفريق الذي قدّم كل شيء، ولم يأخذ أي شيء.وبالتالي صار من كان يطالب حركة حماس ب(النزول عن الشجرة) صار مطالباً هو بالنزول عن الشجرة، ويذهب لحركة حماس ليتوافق معها على طريقة للخروج من المأزق الأوسلوي الذي أوقع الشعب الفلسطيني فيه، ولا زال الشعب يدفع ثمنه حتى اللحظة.*** حركة حماس لم تمكّن من تنفيذ أي برنامج إصلاحي من برامجها، وتعرضت لحرب استئصالية وحصار ودمار لم يحصل في التاريخ، وبالتالي لا يمكن اتهامها بالفشل، لأنها ببساطة لم تأخذ فرصتها في الحكم، ولكن من يلام شعبياً، هو من تفتح له أبواب الدنيا على مصراعيها بالمال والسياسة والسلاح، ولم يجن إلا ديوناً للبنوك بمئات الملايين، وغلاءً فاحشاً، ورفضاً مطلقاً للتلاقي في وسط الطريق مع خصمه السياسي، وعدم اعترافه بنتائج الانتخابات التي فاز بها خصمه.*** ننتقل مباشرة إلى ما يطرح عن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، ويمني الكثيرون النفس بأنهم سيفوزون على حماس فوزاً ساحقاً، وأن حماس ستلحق بحزب الله، فالواقع يتحدث عن نفسه، ولا حاجة لصف كلمات إنشائية، فعندما تغامر حماس بالمشاركة في انتخابات تحت سطوة أمنية، وتحقق إنجازات كبيرة في جامعة بيرزيت، معقل فصائل منظمة التحرير والمسيحيين والليبراليين الفلسطينيين، وتقول نحن هنا ولا زال بإمكاننا أن ننافس ونفوز حتى في ظروف مستحيلة، ويقف مقابلها كل العالم، نعم تنافسها فتح، بدعم كل العالم، وتتقدم حماس، وتدفع ثمن هذا الفوز بحملات اعتقالات واسعة.إذاً حماس موجودة، وطرحها السياسي، يلاقي القبول جماهيرياً، وواقع الحال يؤيد ما تذهب إليه، بأن المفاوضات مع الاحتلال عبثية، وأنه لا بد من التلاقي والتوحد على أسس وطنية تحفظ الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني.إذاً لماذا يصر خصومها وأعداؤها على تنظيم انتخابات جديدة؟طبعاًعندما يتم التفصيل في طرحهم، يكتشف المراقب أن ما يطرح هو تفصيل سقف أخفض من الذي سبقه، حتى يضمن عدم فوز حماس، هذا في حال تم الاتفاق عليه، وهنا أيضاً لا يخرج هذاالطرح عن السياق العام الذي يتم فيه مفاوضة حماس، وهو التوصل إلى طريقة تضمن تحجيمها واستئصالها، وهذا هو الهدف الاستراتيجي.فحماس هي العدو الاستراتيجي لكل هذه الأطراف، وهي وبالرغم من أنها الطرف الأضعف في ما يعرف بمحور الممانعة، إلا أنها هي الطرف الأقوى إستراتيجياً، فهي الطرف الذي يحظى بإجماع الجميع بلا استثناء، فلا حواجز طائفية ولا عرقية ولا مذهبية ولا دينية وقفت أمامها، وهي الطرف الأخطر، لأنها نشأت في بطن الأسد، وبين أعداء يعتبرونها خطراً إستراتيجياً عليهم، واستطاعت تجاوز العواصف العاتية التي هبّت عليها.ظاهر الأمور في المنطقة، يقول أن المنطقة سائرة نحو توافقات بينية وإقليمية، إذا قسنا هذا الشيء على الملف اللبناني والسوري والإيراني، قد يوافق الكثيرون على ذلك، ولكن بالنسبة لملف حماس، فأعتقد أن الأمور تسير- أقله على المدى المتوسط - نحو المواجهة، فملف استئصال حماس هوالملف الذي يحظى بتوافق كل الأطراف التي تختلف على الملفات الأخرى، هذا إن لم يكن هناك ما لا نعرفه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق