الأحد، 22 فبراير 2009

المفاوضات والمقاومة: خياران ينفي أحدهما الآخر أم يكمل أحدهما الآخر؟ ... بقلم : هاني المصري

من العوائق التي تعترض التوصل الى إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، ان هناك من الفلسطينيين والعرب وعلى صعيد العالم كله، من يصور الخلاف الفلسطيني كخلاف عمودي وأفقي لا يمكن إزالته لأنه خلاف بين نهجين وبرنامجين ومعسكرين متوازيين لا يمكنهما الالتقاء. خلاف بين نهج المفاوضات والتسوية ونهج المقاومة والتحرير.وهذا الاعتقاد صحيح للوهلة الأولى في زمن سابق ولكنه الآن ينطبق على أوساط قليلة هنا تؤمن بالمقاومة فقط، وأوساط قليلة هناك تؤمن بالمفاوضات فقط، بينما الاتجاهات الرئيسة، أصبحت ترى العلاقة الوثيقة بين المفاوضات والمقاومة. فالمقاومة تزرع والمفاوضات تحصد، والذي لا يزرع لا يحصد.

فحماس اليوم وبعد مشاركتها السلطة وبعد أن ذاقت طعم الحكم، تختلف عن "حماس" بالأمس، عندما كانت تقاوم فقط. فحماس يوم وافقت على إقامة دولة على حدود 1967 مقابل هدنة طويلة، ووافقت في وثيقة الأسرى على تفويض ابو مازن والمنظمة بالتفاوض باسم الشعب الفلسطيني، وعقدت عدة مرات تهدئة مع اسرائيل وتستعد الآن لتهدئة أخرى. و"فتح" التي سارت وراء وهم السلام هي "أول الرصاص وأول الحجارة"، وهي من رفعت شعار "هويتي بندقيتي". وألغت "فتح" خيار المقاومة بعد أوسلو، ولكنها عادت إليه بعد فشل قمة كامب ديفيد العام 2000، وعادت رسميا للتخلي عنه مجددا بعد اغتيال ياسر عرفات، وهي تستعد اليوم للعودة اليه مجددا.

هناك من يعتبر، والحمد لله أنهم أصبحوا أقلية متناقصة باستمرار، هؤلاء من يعتقدون أن نهج المفاوضات هو الخيار الوحيد المتاح وأن ما لا تحققه المفاوضات يحققه المزيد من المفاوضات. وان ما لا نقبله اليوم، سنقبل أسوأ منه غدا أو سيعرض علينا أسوأ منه، وان "السياسة فن الممكن"، وأننا يجب أن نسير على سياسة "إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، و"تقليل الخسائر والأضرار".

ان نهج المفاوضات فشل فشلا ذريعا بدليل أن المفاوضات لم تحقق أيا من أهدافها، وأوصلتنا الى الوضع الذي نحن فيه الآن، وهو وضع أسوأ مما كنا عليه في صيف العام 1993 أي عشية التوقيع على اتفاق اوسلو. فالفلسطينيون في حالة انقسام سياسي وجغرافي، وهناك سلطتان واحدة في الضفة والأخرى في غزة، وإسرائيل ماضية في تعميق الانفصال بين الضفة وغزة وتحويله الى انفصال دائم، كما قامت إسرائيل منذ اوسلو وحتى الآن، بتعميق الاحتلال في الضفه من خلال مضاعفة الاستيطان عدة مرات و بناء مستوطنات جديدة وتوسيع المستوطنات القائمة، وبناء جدار الفصل العنصري وتقطيع أوصال الضفة وعزل القدس وضمها والمضي في تهويدها وطرد سكانها، ومصادرة الأراضي وأحواض المياه، وبناء الطرق الالتفافية، وعزل وتطويق الأغوار وتفريغها من سكانها وتحويل مساحات واسعة منها الى مناطق عسكرية.

ان هذه النتائج الكارثية توجب مراجعة مسيرة المفاوضات كليا وبشكل جذري، وعدم الاكتفاء بانتقاد جزئي لها. فالمفاوضات حتى تحصد يجب أن تستند الى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة وتسعى لتطبيقها لا التفاوض حولها. ويجب أن تترافق مع دور دولي فعال وضمانات دولية تؤدي لتحقيق الاتفاق وضمان تنفيذه ضمن سقف زمني قصير.وهناك من يعتبر أن نهج المقاومة هو الأسلوب الرئيسي، بل والوحيد في الكفاح، وهو غير مدرك أن بندقية المقاومة التي لا تستند الى الوحدة الوطنية والمصلحة الوطنية العليا والى برنامج سياسي يقودها والى توافق وطني، وقيادة ومرجعية واحدة توظفها لصالح الفلسطينيين تصبح مجرد ردة فعل وتعبير عن المنافسة او المناكفة، وأشبه ببندقية للايجار، وأداة من أدوات الصراع الداخلي، أو ورقة تستخدمها المحاور العربية والاقليمية والدولية لخدمة أجنداتها ومصالحها، وليس كما يجب أن تكون جزءا من استراتيجية طويلة الأمد تهدف الى دحر الاحتلال وتحقيق الأهداف الفلسطينية في الحرية والعودة والاستقلال.فمنذ اوسلو تم فصل القضايا الوطنية عن بعضها، من خلال الفصل بين المرحلتين الانتقالية والنهائية، وتقسيم الأرض الى ا، ب، ج، وتقسيم الشعب الى شعب 1967، وشعب 1948، وشعب الشتات.ومنذ اوسلو تم التخلي عن المقاومة قبل تحقيق أهدافها، وقبل ضمان انطلاق مسار سياسي قادر على تحقيق الأهداف الوطنية. وقبل أن تعترف إسرائيل، بالحقوق الفلسطينية. فإسرائيل وفقا لاتفاق اوسلو والرسائل المتبادلة اعترفت بـ (م.ت.ف) كممثل للشعب الفلسطيني، ولم تعترف بالحقوق الفلسطينية المتمثلة أساسا بحق تقرير المصير وتحرير أرضه، وتمكينه من العودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس على الأراضي المحتلة العام 1967.ومنذ اوسلو انقسم الشعب الفلسطيني، والقوى الفلسطينية في البداية الى معسكرين. معسكر التسوية ومعسكر المقاومة، الى أن عقدت قمة كامب ديفيد الثانية وفشلت حيث اندلعت الانتفاضة الشعبية الثانية التي انخرط فيها الكل الفلسطيني الى أن قامت اسرائيل بإعادة احتلال الضفة ومحاصرة ياسر عرفات ثم اغتياله.وفي الانتفاضة الثانية برزت المقاومة المسلحة والعمليات الاستشهادية تحديدا كأسلوب رئيس من أساليب المقاومة، حيث تنافست في هذا الميدان، الكتائب العسكرية المختلفة خصوصا كتائب شهداء الأقصى، وكتائب الشهيد عز الدين القسام، ثم تم إيقاف هذا الأسلوب دون مقابل سياسي أي دون اتفاق مع اسرائيل. بحيث بدا للعالم أن اسرائيل استطاعت عبر القوة ومن خلال إقامة جدار الفصل العنصري أن توقف العمليات الفلسطينية داخل اسرائيل.وتم الاستعاضة عن العمليات الاستشهادية بأسلوب إطلاق القذائف والصواريخ من غزة على اسرائيل، رغم أن غزة محاصرة ولا تملك العمق الاستراتيجي والجغرافي، لا المحلي ولا المحيط بها، بعد أن أعادت القوات الإسرائيلية الانتشار فيها، وتبدي اسرائيل الاستعداد للانسحاب منها من أجل تركيز كل قوتها ومخططاتها على الضفة.

وبدلا من ان تكون الضفة ميدان المقاومة الرئيس، وتصبح غزة قاعدة إسناد، تحولت الضفة الى ادارة مدنية تتعايش مع الاحتلال، وغزة الى الميدان الرئيسي للمعركة، في ظل عدم تكافؤ بالقوة وسيطرة الطابع العسكري على المواجهة ما أدى، ويمكن أن يؤدي الى طغيان الحرب الكلاسيكية التي تستطيع أن تتمتع فيها اسرائيل بمزايا تفوقها العسكري وتقليل خسائرها الى أدنى حد ممكن.إن القيادات الفلسطينية تواجه أزمة خيارات فلسطينية. فالمفاوضات وعلى لسان ابرز مؤييدها وصلت الى طريق مسدود، لدرجة أن الرئيس ابو مازن وابو علاء أصبحا يقولان إنها عبثية ولا لزوم لها إذا سارت وفقا للطريقة السابقة ودون وقف الاستيطان.أما المقاومة، فهناك إجماع فلسطيني على ضرورتها، مع اهمية التوصل حاليا الى تهدئة مع اسرائيل في غزة، وفي ظل مطالبة فلسطينية، ترفضها اسرائيل حتى الآن، لكي تشمل الضفة، الأمر الذي، اذا تحققت التهدئة، يوقف المقاومة العسكرية أو يعلقها عاما ونصف قابلة للتمديد حسب بنود صفقة التهدئة التي يتم التفاوض حولها.لقد انتقدنا نمط العمليات الاستشهادية داخل اسرائيل رغم كل البطولة التي انطوت عليها، لأنها دفعت الصراع الى معارك فاصلة نحن غير مستعدين لها في ظل اختلال فادح في ميزان القوى وفي اوضاع عربية ودولية غير مواتية، كما أنها وحدت اسرائيل، ومكنتها من المزج بين المقاومة الفلسطينية المشروعة والإرهاب لأنها من خلال استهداف المدنيين أضعفت من تأثير عدالة القضية الفلسطينية وتفوقها الأخلاقي. لذلك خرجنا من هذه المرحلة مهزومين، رغم أن ميزان الخسائر الفلسطينية الى الإسرائيلية كان ضمن نسبة 4:1 منذ العام 2000ــ2004. أما الآن فالنسبة بين الخسائر الفلسطينية الى الإسرائيلية 100:1 في الحد الأدنى ومع هذا لم نهزم، رغم الخسائر الفادحة ؟ورغم أن الخسائر الاسرائيلية المحدودة تفتح شهية اسرائيل أكثر على العدوان والحرب والإيمان أكثر وأكثر بأن ما لا تحققه القوة لإسرائيل يمكن أن يحققه لها المزيد من القوة.لذلك احتمال تجدد الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين عموما، وضد قطاع غزة تحديدا يبقى كبيرا، خصوصا بعد فوز الأحزاب اليمينية واليمينية الأكثر تطرفا في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وذلك سواء تم التوصل الى تهدئة أو لم يتم. فالتهدئة حتى لو تم الاتفاق عليها، لن تطول إذا لم يتم إطلاق مسار سياسي جدي قادر على إنهاء الاحتلال. إلا إذا وافق الفلسطينيون على إلقاء السلاح أرضا وقبول التعايش مع الاحتلال، بحيث تقوم اسرائيل بتطبيق مشاريعها التوسعية والاستيطانية والعنصرية دون رد فعل فلسطيني. وهذا مستحيل فالاحتلال يولد المقاومة. والعدوان والاستيطان والعنصرية تولد المقاومة.في هذا السياق لابد من مراجعة عميقة وشاملة للتجربة الفلسطينية واستخلاص الدروس والعبر خصوصا فيما يتعلق بالمقاومة.فالسؤال الذي يطرح نفسه بعد تجاربنا الغنية والمريرة هو: إذا كانت المقاومة حقا وواجبا فما هي أشكال المقاومة المناسبة في هذه المرحلة؟ اعتقد أن من الضروري الاحتفاظ بحقنا باستخدام كافة أشكال المقاومة بما فيها المقاومة المسلحة، ولكن الأجدى لنا في هذه الظروف التركيز على المقاومة الشعبية المترافقة مع تعزيز مقومات البقاء والتواجد والصمود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية ومع مقاطعة الاستيطان عملا وتعاملا وتجارة، ومع مقاومة التطبيع الفلسطيني والعربي والدولي مع اسرائيل ما دامت محتلة وعدوانية وتوسعية وعنصرية، ومع الاعتماد على الدعم الدولي بكافة أشكاله (الرأي العام، الحماية الشعبية الدولية، القانون الدولي، تنشيط دور المؤسسات الدولية لمحاسبة اسرائيل على احتلالها وجرائمها، وتنشيط البعد العربي والإسلامي والدولي للقضية الفلسطينية) فإسرائيل لا تهدد فلسطين ولا العرب فقط وإنما هي خطر حقيقي على الأمن والسلام والاستقرار في العالم كله.ان فلسطين بحاجةالى رؤية استراتيجية جديدة بعيدا عن اوهام التسوية، قادرة على توحيد الفلسطينيين وراء برنامج واحد، يجمع بين المفاوضات المثمرة والمقاومة المثمرة لتحقيق الأهداف الوطنية المتفق عليها والمتمثلة بانجاز الحرية والعودة والاستقلال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق