أدت حرب غزة في الأساس وبعد ذلك وبدرجة أقل الإنتخابات الإسرائيلية إلى نشوء واقع فلسطيني مختلف تمظهر عبر مجموعة من المفاهيم والحقائق السياسية التي يصعب تجاوزها أو القفز عنها عند أي تعاطي جدي مع الخلافات الفلسطينية- الفلسطينية والمساعي الهادفة لإنهاء الإنقسام الوطني أو عند الشروع فى أي مقاربة تسعى لحل الصراع في فلسطين وفق الخطط والتصورات التي جرى الثرثرة حولها خلال الأعوام الماضية.
أولى الحقائق التى كرستها حرب غزة، تتمثل بإستحالة القضاء على فصائل المقاومة وتحديدا حماس بالقوة المسلحة أوبالوسائل العسكريةـ وأكدت الحرب ما كان يقال في إسرائيل من أن القضاء على حماس يقتضي إعادة إحتلال قطاع غزة بالكامل وإجراء عملية تفتيش أو خوض حرب من بيت إلى بيت ومن شارع إلى شارع، حتى إعتقال أو قتل الآلاف من قادة وكوادر المقاومة، وهو سيناريو لا يوجد قائد سياسي إسرائيلي قادر على تحمل تبعاته وتداعياته، ناهيك عن تعقيداته الميدانية ومداه الزمني المفتوح وتكلفته الباهظة أمنيا وإقتصاديا، وهي التكلفة التى تمنع معظم القادة العسكريين من مجرد التفكير به مع وجود أقلية تعتقد أن أي حلول أخرى لن تكون سوى مسكنات لا أكثر ولا أقل .
الحقيقة الثانية التى أنتجتها الحرب الأخيرة هى إستحالة تجاوز حماس سياسياً في أي ترتيب فلسطيني داخلي، أو في أي حركة سياسية ودبلوماسية تهدف إلى حل الصراع في فلسطين والمنطقة. هذه السيرورة لازالت في بدايتها، إلا أن ملامحها الأولية شديدة الوضوح وتبدت في عدة معطيات، منها حديث رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان عن الخطأ الذى تم إقترافه عبر عزل ومحاصرة حماس ووضعها فى الزاوية عوضا عن الإعتراف بالإنتصار الإنتخابي والديموقراطي الذى حققته، وكذلك الإنفتاح الفرنسي التدريجي وشبه الرسمي تجاه حماس ومجاهرة باريس بضرورة تخفيف شروط الحوار مع حماس ونيتها الإعتراف والتعامل مع أي حكومة وحدة وطنية قادمة في فلسطين بما فى ذلك وزراء حماس او المحسوبين عليها. إضافة الى ما سبق يبرز تصريح مبعوث اللجنة الرباعية تونى بلير عن ضرورة إشراك حماس وعدم تجاوزها فى المساعي الهادفة إلى التوصل الى حل للقضية الفلسطينية، أما رابع تلك المعطيات و ربما أهمها فيتمثل بالنقاش الجدي في أروقة إدارة أوباما حول فكرة الحوار مع حماس، أوعلى الأقل الإنفتاح التدريجي وغير الرسمي تجاهها لتفادي الفشل في أي نشاط ديبلوماسي مفترض تجاه المنطقة ومشاكلها المختلفة.
ثالث الحقائق التي كرستها حرب غزة تتعلق بمنظمة التحرير التي باتت أول بند على جدول الأعمال الفلسطيني. طوال الحوارات الماضية تم تقديم الملفات والشؤون الخاصة بالسلطة – الحكومة والإنتخابات- على تلك المتعلقة بمنظمة التحرير. الآن وخاصة بعد تصريح السيد خالد مشعل حول المرجعية البديلة بدا المشهد مغايراً وثمة توافق على الخوض في ملف المنظمة الشائك بالتوازي أو حتى كمقدمة لمناقشة ومعالجة الملفات الأخرى. السيد راكاد سالم الأمين العام لجبهة التحرير العربية المنضوية تحت لواء المنظمة قال أثناء إجتماع للمجلس الوطني عقد في رام الله لمناقشة أبعاد تصريح السيد مشعل ما مفاده أن المنظمة كانت الغائب الأكبر عن حرب غزة وكان يجب عقد إجتماع للمجلس أثناء الحرب لدعم صمود أهالي غزة في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية. السيد ياسر عبد ربه كان كعادته أكثر صراحة وجرأة في تناول الموضوع فدعا إلى مشاركة مؤقتة أومرحلية لحماس في المنظمة إلى حين إجراء إنتخابات من أجل إختيار مجلس وطني جديد يأخذ على عاتقه إصلاح المنظمة وتفعيلها. .
رابع الحقائق التي أفرزتها حرب غزة تتضمن إنهاء الوساطة الحصرية المصرية فى الملف الفلسطيني الداخلي. بعد قمة غزة فى الدوحة وجولة قيادة حماس العربية والإسلامية، بدا أن من المستحيل المضي قدماً في الوساطة الحصرية بإطارها السابق وتم التعبير عن ذلك فى إقتراح بتشكيل مرجعية أو لجنة مصرية عربية عليا للإشراف على عمل اللجان الفلسطينية المختلفة التى ستلتئم فى القاهرة أواخر شباط الحالي من أجل معالجة القضايا محل الخلاف وهى لجان الحكومة والإنتخابات والمنظمة والأمن والمصالحة الداخلية وبالتالى يمكن توقع وجود عربى رفيع المستوى فى كواليس الحوارات والمصالحات الفلسطينية
آخر الحقائق التي أنتجتها الحرب تتعلق بالمفاوضات والتنسيق الأمني مع إسرائيل. لافتة جدا في هذا الصدد المبادرة التى أطلقتها ثلة من الشخصيات الفلسطينية من إتجاهات مختلفة – حنان عشراوى ومنيب المصرى وعبد الرحيم ملوح وهاني المصرى واخرين- وتتضمن مطالبة بوقف المفاوضات وكذلك التنسيق الأمني علماً أن هذه كانت مطالب لحماس وفصائل المقاومة المتحالفة معها وجاءت الحرب لتجعل منها نقطة إلتقاء وتقاطع بين تيارات عريضة داخل الساحة السياسية الفلسطينية تؤسس لعمل وأداء فلسطيني مختلف خلال المرحلة القادمة. الإنتخابات الإسرائيلية جاءت بعد الحرب بفترة وجيزة وخلقت بدورها مجموعة من الوقائع والآثار على الساحة الفلسطينية، أو ساهمت في تكريس وتأكيد بعض الحقائق السالفة الذكر أول الآثار التي تركتها بنتائجه الإنتخابات فلسطينيا ظهرت في القاهرة عبر لقاء رفيع المستوى بين حماس وفتح نتجت عنه توصيات جد مهمة مثل وقف التراشق الإعلامي وتشكيل لجان لمناقشة قضية المعتقلين السياسيين والمؤسسات الوطنية المغلقة فى قطاع غزة والضفة الغربية.
يجب تذكر أن الاجتماع الأول الذي أذاب الجليد و كسر حاجز عدم الثقة عقد فى القاهرة أيضا على وقع حرب غزة ولكن بمستوى منخفض، لقاء القاهرة يؤكد أن ثمة قناعة بإستحالة تقديم المفاوضات والعلاقة مع إسرائيل على الحوارات الداخلية والوحدة الوطنية، ويمكن الإستنتاج كذلك بأن إصلاح الوضع الداخلي سينال الأولوية في العمل الفلسطيني خلال الفترة القادمة في ظل الإيمان بإستحالة إستئناف عملية التسوية مع أي حكومة سيتم تشكيلها في إسرائيل وفق نتائج الإنتخابات التي أعطت أغلبية ملموسة وصلبة لأحزاب اليمين المتطرف. أمر مهم آخر أوجدته نتائج الإنتخابات الإسرائيلية يتمثل بإقتناع أصحاب القرار في السلطة الفلسطينية بضرورة وقف المفاوضات الآن وعلى الأقل إستحالة إستئنافها وفق الآلية السابقة. السيد ياسر عبد ربه قال فى مؤتمر صحافي عقده في رام الله الأسبوع الماضي معلقا على النتائج بما يلى:" لعبة الخداع السابقة أوقفناها ، نتفاوض ويسرقون الأرض، تتفاوض ويهودون القدس، نتفاوض ويبنون الجدار، هذه اللعبة إنتهت وأقفلت ولن نتفاوض مع أي حكومة إسرائيلية جديدة ما لم تقبل مبادرة السلام العربية وما لم يتوقف الإستيطان فورا". يفترض أن تؤدي الحقائق والوقائع السابقة الى تقارب فلسطينى وأداء مختلف يعطي الأولوية للوحدة الوطنية والتوافق والتفاهم إستنادا إلى ذخيرة مهمة من الوثائق التى تم التوصل اليها سابقا، غير أن ذلك لا يجب أن يلغي أو يحجب الخيار الديموقراطي والإحتكام الى الشعب للفصل بين الخيارات السياسية المتعارضة، ومن ثم التفرغ لإدارة الصراع مع إسرائيل على أساس بندين مهمين لا يمكن الإستغناء عنهما لأي شعب يبحث عن الحرية والإستقلال، مرجعية عليا أو إطار قيادي جامع لرسم الإستراتيجيات وإدارة الصراع فى بعده اليومي، وهذا متوفر فى المنظمة-بعد اصلاحها طبعا- وبرنامج الحد الأدنى لإنجاز الأهداف الوطنية، وهو متوفر أيضاً فى وثيقة الوفاق الوطني التى تضمنت بنود مهمة ومركزية مثل الحسم الديموقراطي فى الخلافات والتباينات، والمقاومة بكافة أشكالها خاصة فى حدود حزيران يونيو 1967، ودولة ضمن هذه الحدود عاصمتها القدس مع حل عادل لقضية اللاجئين وفق القرار 194. المنتصر والبطل وصاحب الفضل الأساس فى الصمود الأسطوري خلال معركة غزة هو الشعب الفلسطيني ومن المنطقي الامل أن تذهب كل العوائد والإنجازات السياسية والإقتصادية والمعنوية إلى هذا الشعب، وتصب فى المصلحة الوطنية الجامعة وليس فى المصلحة الفئوية الضيقة .
مدير مركز شرق المتوسط للدراسات والإعلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق