الجمعة، 6 فبراير 2009

صمت من أجل غزة.... للشاعر محمود درويش

خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحارإنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياةمنذ أربع سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائفلا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدوومنذ أربع سنوات والعدو مبتهج بأحلامه.. مفتون بمغازلة الزمن.. إلا في غزةلأن غزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء.. لأن غزة جزيرة كلما انفجرت وهي لا تكف عن الانفجار خدشت وجه العدو وكسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن.لأن الزمن في غزة شيء آخر.. لأن الزمن في غزة ليس عنصرا محايدا.. إنه لا يدفع الناس إلي برودة التأمل. ولكنه يدفعهم إلي الانفجار والارتطام بالحقيقة. الزمن هناك.. لا يأخذ الأطفال من الطفولة إلي الشيخوخة ولكنه يجعلهم رجالا في أول لقاء مع العدو.. ليس الزمن في غزة استرخاء.. ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة.. لأن القيم في غزة تختلف.. تختلف.. تختلف.. القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هي مدي مقاومته للاحتلال هذه هي المنافسة الوحيدة هناك.وغزة أدمنت معرفة هذه القيمة النبيلة القاسية.. لم تتعلمها من الكتب ولا من الدورات الدراسية العاجلة.. ولا من أبواق الدعاية العالية الصوت ولا من الأناشيد. لقد تعلمتها بالتجربة وحدها وبالعمل الذي لا يكون إلا من أجل الإعلان والصورة.إن غزة لا تباهي بأسلحتها وثوريتها وميزانيتها إنها تقدم لحمها المر وتتصرف بإرادتها وتسكب دمها.. وغزة لا تتقن الخطابة.. ليس لغزة حنجرة.. مسام جلدها هي التي تتكلم عرقا ودما وحرائق.من هنا يكرهها العدو حتي القتل. ويخافها حتي الجريمة. ويسعي إلي إغراقها في البحر أو في الصحراء أو في الدم.. من هنا يحبها أقاربها وأصدقاؤها علي استحياء يصل إلي الغيرة والخوف أحيانا. لأن غزة هي الدرس الوحشي والنموذج المشرق للأعداء والأصدقاء علي السواء.ليست غزة أجمل المدن..ليس شاطئها أشد زرقة من شؤاطئ المدن العربية.وليس برتقالها أجمل برتقال علي حوض البحر الأبيض.وليست غزة أغني المدن..وليست أرقي المدن وليست أكبر المدن. ولكنها تعادل تاريخ أمة. لأنها أشد قبحا في عيون الأعداء، وفقرا وبؤسا وشراسة. لأنها أشدنا قدرة علي تعكير مزاج العدو وراحته، لأنها كابوسه، لأنها برتقال ملغوم، وأطفال بلا طفولة وشيوخ بلا شيخوخة، ونساء بلا رغبات، لأنها كذلك فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب..نظلمها حين نبحث عن أشعارها فلا نشوهن جمال غزة، أجمل ما فيها أنها خالية من الشعر، في وقت حاولنا أن ننتصر فيه علي العدو بالقصائد فصدقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا العدو يتركنا نغني.. وتركناه ينتصر ثم جفننا القصائد عن شفاهنا، فرأينا العدو وقد أتم بناء المدن والحصون والشوارع..ونظلم غزة حين نحولها إلي أسطورة لأننا سنكرهها حين نكتشف أنها ليست أكثر من مدينة فقيرة صغيرة تقاوم.وحين نتساءل: ما الذي جعلها أسطورة؟سنحطم كل مرايانا ونبكي لو كانت فينا كرامة أو نلعنها لو رفضنا أن نثور علي أنفسنا.ونظلم غزة لو مجدناها لأن الافتتان بها سيأخذنا إلي حد الانتظار، وغزة لا تجيء إلينا، غزة لا تحررنا، ليست لغزة خيول ولا طائرات ولا عصي سحرية ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد وحين نلتقي بها ذات حلم ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار ونحن من مواليد الانتظار والبكاء علي الديار..صحيح أن لغزة ظروفا خاصة وتقاليد ثورية خاصة.. ولكن سرها ليس لغزا: مقاومتها شعبية متلاحمة تعرف ماذا تريد (تريد طرد العدو من ثيابها).وعلاقة المقاومة فيها بالجماهير هي علاقة الجلد بالعظم. وليست علاقة المدرس بالطلبة.لم تتحول المقاومة في غزة إلي وظيفة ولم تتحول المقاومة في غزة إلي مؤسسة.. لم تقبل وصاية أحد ولم تعلق مصيرها علي توقيع أحد أو بصمة أحد.. ولا يهمها كثيرا أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها لم تصدق أنها مادة إعلامية، لم تتأهب لعدسات التصوير ولم تضع معجون الابتسام علي وجهها..لا هي تريد.. ولا نحن نريد..من هنا تكون غزة تجارة خاسرة للسماسرة ومن هنا تكون كنزا معنوياً وأخلاقيا لا يقدر لكل العرب..ومن جمال غزة أن أصواتنا لا تصل إليها لا شيء يشغلها، لا شيء يدير قبضتها عن وجه العدو، لأشكال الحكم في الدولة الفلسطينية التي سننشئها علي الجانب الشرقي من القمر، أو علي الجانب الغربي من المريخ حين يتم اكتشافه، إنها منكبة علي الرفض.. الجوع والرفض والعطش والرفض والتشرد والرفض والتعذيب والرفض والحصار والرفض والموت والرفض..قد ينتصر الأعداء علي غزة (وقد ينتصر البحر الهائج علي جزيرة قد يقطعون كل أشجارها)..قد يكسرون عظامها..قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها وقد يرمونها في البحر أوالرمل أو الدم ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم..وستستمر في الانفجار..لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة..وستستمر في الانفجار..لا هو موت ولا هو انتحار ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق