الاثنين، 9 فبراير 2009

الحرب الإسرائيلية على غزة: إخفاق متبادل وانتصار بالنقاط السالبة .. بقلم : صقر ابو فخر

بعد كل جولة من جولات الحرب ينصرف السياسيون عادة إلى احتساب مكاسبهم، بينما يبدأ العسكريون في إحصاء القتلى والجرحى، أما الناس فيشرعون في التساؤل عمن انتصر وعمن هُزم. هذا ما حدث في حرب تموز ٢٠٠٦ في لبنان، وهذا ما يجري اليوم بعد الحرب على غزة سنة ٢٠٠٩. وعلى أهمية هذه الحسابات والتساؤلات، فإن الأمور الجوهرية لا تكمن فيها وحدها، بل في ميدان آخر من التفكير والأسئلة. وعلى سبيل المثال:
لماذا شنت اسرائيل هذه الحرب؟ ما الذي تغير بعد الحرب؟ هل ثمة »ستاتيكو« جديد؟ هل الأوضاع ستعود إلى ما كانت عليه؟ هذه الحرب هي إفصاح جلي عن عقيدة »الحرب الجامحة« (Craz war). وعقيدة »الحرب الجامحة« هذه هي أحد وجوه نظرية »الجدار الحديدي« التي صاغها فلاديمير جابوتنسكي والتي تقول »إن العرب سيحاولون دائما مهاجمة اسرائيل من دون كلل في كل مرة تتوافر لهم الوسائل الملائمة. وسيتوقف العرب عن ذلك عندما يدركون أن الهجومات المتكررة على اسرائيل ستكون مثل محاولة اختراق جدار حديدي قاس: مستحيلة وتحطم الجماجم«. أي ان جوهر هذه النظرية هو الوصول إلى وضع »يقتنع« العرب فيه بأن من المحال تدمير إسرائيل. وهذا هو الأساس الذي بُنيت عليه نظرية الردع الاسرائيلية، وخلاصتها أن الخصم يجب أن يدرك أنه سيدفع ثمناً لا يمكن احتماله إذا حاول أن يمس الأمن الإسرائيلي. وبهذا الإدراك يمتنع عن المساس بالأمن. هذه النظرية زرعها دافيد بن غوريون، وكان آخر ممثل لها إيهود باراك، علاوة على أرييل شارون قبله. ومن الناحية التطبيقية تقوم هذه النظرية على استغلال التفوق العسكري لتحطيم الخصم كقوة مقاتلة، وإضعاف موقعه كحركة سياسية، وتغيير عقيدته، وهو ما يسمى في الأدبيات العسكرية الإسرائيلية »كي الوعي«.
وكان واضحا منذ خريف ٢٠٠٨ أن اسرائيل تستعد لتجريب أحد فنون هذه »النظرية« في غزة. فقد كتب العقيد غبريئيل سيبوني ما يلي: »هناك رد واحد في غزة: توجيه ضربة غير متكافئة تصيب العدو في مقتله. أما ضرب قدرته على إطلاق الصواريخ فهي مسألة ثانوية. ويجب، فور اندلاع المواجهة، العمل بسرعة وبصورة غير متناسبة مع اعتداءات العدو، على ضربه ومعاقبته بشدة وبشكل يفرض عليه الاضطرار الى القيام بعمليات ترميم طويلة المدى ومكلفة« (مجلة »مباط عال«، العدد ٧٤، ١/١٠/٢٠٠٨). وفي الفترة نفسها أعلن غادي أيزنكوت، قائد المنطقة الشمالية في الجيش الاسرائيلي »أن اسرائيل وضعت خطة تتضمن تدمير أي موقع أو قرية (لبنانية) تُطلق النار منها على الجيش الإسرائيلي من دون أي اعتبار للرأي العام« (يديعوت أحرونوت، ٣/١٠/٢٠٠٨). كان تصريح أيزنكوت موجهاً إلى حركة حماس بالدرجة الأولى ثم الى حزب الله. فهل رنّت أجراس الإنذار لدى حماس آنذاك؟ وهل رأى قادتها اشتعال الأزرار الحمر والمفاتيح الخضر في لوحة المعارك لدى هيئة الأركان الإسرائيلية؟ وهل استعدوا، في جميع الأحوال، لمواجهة »نهج الضاحية« الذي طالما تحدث عنه غادي أيزنكوت قبيل العدوان؟ و»نهج الضاحية« أو »عقيدة الضاحية« ليس شأنا مستحدثا في حرب تموز ٢٠٠٦، بل جرى تطبيقه قبل ذلك بكثير، وبالتحديد في معركة بيروت سنة ١٩٨٢.
فور اندلاع الحرب تحدث البيان الأول الذي أصدره الجيش الإسرائيلي عن »توجيه ضربة قاسية لحركة حماس وبنيتها التحتية بحيث تصبح مثل حزب الله في لبنان فاقدة للرغبة في إطلاق الصواريخ على إسرائيل، ثم فرض نظام جديد على الحدود المصرية ـ الفلسطينية من شأنه أن يمنع تهريب الأسلحة الى حماس عبر سيناء« (الوكالات، ٢٧/١٢/٢٠٠٨). أما إيهود باراك فكان أكثر تفصيلا وتحديدا، فوضع لهذه الحرب أهدافا أربعة هي:
١ـ اختبار قدرة الردع لدى الجيش الإسرائيلي.
٢ـ إثبات تفوق سلاحي الجو والاستخبارات، واختبار مدى فاعلية التنسيق بين هذين السلاحين.
٣ـ توجيه ضربة قوية لحماس تكون، في الوقت نفسه، رسالة تحذير إلى سوريا وحزب الله معاً.
٤ـ تغيير الوضع القائم على الحدود بين مصر وغزة، الأمر الذي يُنهي فاعلية الأنفاق وتهريب السلاح من سيناء إلى غزة.
تلك كانت أهداف الحرب. أما وسائل التنفيذ فكانت تطبيقا حرفيا لعقيدة »الحرب الجامحة« و»نهج الضاحية« اللذين كان الكلام عليهما يدور على الألسن وفي الصحافة الإسرائيلية قبل نحو ثلاثة أشهر على اندلاع القتال. وفي هذا الميدان يصبح التساؤل عمن انتصر وعمن هُزم مقدمة ضرورية لقراءة نقدية في نتائج هذه الحرب وتداعياتها وعقابيلها.
انتصارات وهزائم ماذا يعني الانتصار في هذه الحال؟ وماذا تعني الهزيمة؟
الانتصار يعني، في أقصى غاياته، فرض شروط المتغلب على المهزوم. وفي أدنى أهدافه، منع الخصم من تحقيق أهدافه، وإلحاق الضرر الشديد به بحيث يصبح غير قادر على تكرار عدوانه. أما الهزيمة فتعني، في أسوأ الأحوال، الإذعان لشروط المتغلب، وفي أقل الأحوال سوءا، تغيير الستاتيكو الى وضع جديد يصبح فيه الخصم قادرا على تقييد إرادة الطرف الآخر وتكبيل إمكاناته وشل فاعليته. كمواطن، لا أرغب على الإطلاق، ولا أتصور نفسي راغباً في أن تُهزم حماس وتنتصر اسرائيل، فهذه مسألة مبدئية وبدهية معا. لكنني ككاتب سأحاول أن أضع عواطفي ورغباتي جانبا، وأن أتأمل في وقائع الأحوال بعقل شبه محايد. وفي هذا الحقل من التفكير لا يمكنني الاستنتاج قط أن حماس انتصرت عسكريا وأن إسرائيل هُزمت. فهذا الكلام مجرد لغة تعبوية تُقال عادة في معمعان المعارك وفي خضم أهوالها. لكن، ما إن تضع الحرب أوزارها حتى يصبح من الضرورة أن يتحول الكلام على الحرب من الحماسة الى التفكر العلمي والنقدي. نعم، كان هناك فيض كبير جدا من الكلام الخطابي والإنشاء المشائخي، فضلا عن الاضطراب السياسي ونقصان الحنكة الدبلوماسية لدى حركة حماس. فمنذ بداية العمليات العسكرية تحدث مسؤولو حماس والناطقون باسمها والهاتفون لها عن التواطؤ المصري مع العدوان الإسرائيلي، وهو أمر صحيح. لكن، في ما بعد، بلعوا هذه التصريحات وشرعوا في جولات مكوكية متتابعة، من غزة ومن دمشق إلى القاهرة، للتفتيش عن مخرج لائق من هذا المأزق. ومع ذلك لم يتردد خالد مشعل في القول بجرأة غريبة إن »أهداف العدو لم تتحقق، فهو فشل في الميدان كما فشل في السياسة، فاضطر الى الانسحاب من دون أي اتفاق أو شروط تُلزم المقاومة أو تقيدها«. وأضاف: »إن حماس انتصرت في معركتي إجبار العدو على وقف العدوان وإجباره على الانسحاب دون أن يحقق شيئا« (»السفير«، ٢٢/١/٢٠٠٩).
سأجازف بالقول إن ثمة فشلا متبادلا الى حد ما. فما فشلت فيه إسرائيل أُضيف إلى رصيد حماس كنصر. وما فشلت فيه حماس كان أحد عناصر النجاح الإسرائيلي. فهو فوز بالنقاط السالبة للطرفين. ومن المبالغة جداً الكلام على انتصار. ومثل هذا الكلام إنما هو مجرد لغة تهليلية لا تليق بالتأمل النقدي. بلى.
إخفاقات اسرائيل :
لقد أخفقت إسرائيل في بعض الجوانب التي تضمنها »بيان العمليات:
فهي لم تتمكن من إزالة خطر الاستنزاف بالصواريخ، وأوقفت إطلاق النار قبل أن تتمكن من توفير آلية فاعلة لمنع تهريب السلاح الى غزة، ولم تستعد الجندي الإسرائيلي المخطوف جلعاد شاليط، وفشلت استخبارياً، في تحديد المخابئ البديلة لقادة حماس والجهاد الإسلامي (ما عدا مخبأ نزار ريان وزوجاته الأربع ومخبأ سعيد صيام).
إخفاقات حماس :
كذلك فشلت حماس، من المنظور العسكري، في هذه الموقعة فشلا لا يمكن إغفاله. فهي لم تتوقع الضربة الجوية الأولى مع أن تصريحات العسكريين الإسرائيليين كادت أن تحدد ساعة الصفر، فاستهانت بحياة رجال الشرطة، لهذا كانت مجزرة كلية الشرطة فضيحة مدوية بجميع المعايير. وكانت الصواريخ التي يشبه بعضها ألعاب قيصر عامر تُطلق على البلدات الإسرائيلية لا على التجمعات العسكرية المتقدمة. وهذا الأمر غريب حقاً، وهو تكتيك غير مقنع، ويدل على الارتباك في التخطيط وفي قتال الميدان. وفشلت حماس في تنفيذ عملية انتحارية (أو استشهادية) واحدة في العمق الإسرائيلي. ثم إن قلة الخسائر في الجانب الإسرائيلي تشير الى أن المواجهات القتالية المباشرة، وعمليات الإغارة على أمكنة تجمع الجنود الإسرائيليين، والتصدي بالكمائن للمجموعات المتحركة، كانت محدودة جدا. والواضح أن المقاتلين، إلا أقلهم، »تترسوا« بين المدنيين. وفي المصطلحات العسكرية الحديثة ثمة ما يسمى »الدفاع الثابت«. لكن نتائج هذا الدفاع تكون سلبية تماما على المدافعين حينما تكون موازين القوى لمصلحة المهاجم. ويبدو لي أن المقاتلين »تترسوا« بين المدنيين للاحتماء لا لانتظار وصول الجيش الإسرائيلي إليهم ليمارسوا »الدفاع الثابت«، فتسببوا بسقوط أعداد أكبر من المتوقع بين المدنيين، ولم يسقط إلا القليل من المقاتلين بسبب الاستنكاف عن ممارسة قتال »حرب العصابات«.
لقد خسرت إسرائيل عشرة قتلى من العسكريين وثلاثة مدنيين بينهم عربي واحد. وهذه الخسارة أقل بكثير مما خسره الجيش الإسرائيلي في معركة مخيم جنين في نيسان ٢٠٠٢ (عملية »السور الواقي«) التي سقط فيها ٢٨ جنديا إسرائيليا، وأقل مما سقط في معركة الكرامة (٢١/٣/١٩٦٨) حينما لم يكن لدى الفدائيين أي أسلحة متطورة على الإطلاق، ومع ذلك كبّدوا الإسرائيليين ٢٨ قتيلا و٩٠ جريحاً و٤ دبابات و٥ عربات وطائرة واحدة. واللافت أن حماس أعلنت استشهاد ٤٨ من مقاتليها فقط، بينما نعت حركة فتح ٨٧ مقاتلا، واستشهد معهم ٢٧ من الجهاد الإسلامي و١٣ من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وآخرون من الجبهة الديموقراطية.
حماس لم تنتصر عسكريا. هذا أمر لا ريب فيه لدي. وهو ليس معيباً في أي حال في ظل موازين القوى المختلة بشكل كاسح لمصلحة إسرائيل. لكن حماس نالت انتصاراً شعبياً لا يمكن تقدير مداه اليوم. وما هو قائم اليوم قد لا يكون موجودا في الغد. والمهم بعد أي معركة هو التفتيش عن العناصر التي تتيح تحويل الواقع الى نصر سياسي متين، لأن النصر الشعبي غير مهم في حسابات القوى على المدى القريب لأنه ربما يتبخر في ما بعد، ولا سيما أن مجتمعاتنا هي مجتمعات احتجاجية وغاضبة الى حد كبير. والاحتجاج والغضب، على أهميتهما، لا يصنعان سياسة بقدر ما يعبران عن الرغبات السياسية.
هل من ستاتيكو جديد؟
انتهت »عملية الرصاص المسكوب« موقتاً. لقد كانت حملة طِراد همجية بجميع المقاييس. والآن ها هو باراك وكذلك ليفني يعدان طرائدهما (أصوات المقترعين) بجذل ممزوج بالوجل لأن بنيامين نتنياهو ينتظرهما عند مفرق الانتخابات. لكن ذلك ليس هو الجوهري في المسألة. الجوهري الآن هو: هل ثمة ستاتيكو جديد يجري إنشاؤه في غزة؟
في سنة ١٩٦٨ تمكنت حركة فتح من تحويل النتائج العسكرية لمعركة الكرامة الى نصر سياسي والى نصر شعبي غير مسبوق. ومع ذلك لم يستطع ياسر عرفات تغيير ذلك الستاتيكو الذي قام بعد حرب ١٩٦٧. لقد تغير الأمر في سنة ١٩٧٠، لكن لم يكن ياسر عرفات مَن غيّره بل الملك حسين. واليوم، من المشكوك فيه كثيرا أن تتمكن حماس من تحويل النصر الشعبي الذي حققته في سنة ٢٠٠٩ إلى نصر سياسي. لذلك فإن أي تغيير في الستاتيكو الراهن سيجري بإرادة غير فلسطينية، بل رغماً عن إرادة أي طرف فلسطيني، ولنراقب في هذا السياق اتفاقية رايس ـ ليفني الموقعة في ١٦/١/٢٠٠٩. لم تنته هذه الحرب باتفاق سياسي. لقد انتهت، موقتاً، بوقف النار من جانب واحد. ووقف النار من جانب واحد، من غير التوصل الى اتفاق سياسي، يعني أن اسرائيل ترغب في بقاء الاستنفار قائما. وفوق ذلك تريد أن تكون المبادرة في يدها، وأن تُبقي قوة الردع لديها في أفضل جاهزية مع أن الصاروخ الأخير لا يزال في أيدي حماس. وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، أن الحرب لم تنته تماما، وأن عودة القتال أمر ممكن جدا بعد تأليف الحكومة الإسرائيلية الجديدة، إلا إذا تم رسم ستاتيكو جديد لمصلحة اسرائيل، ستاتيكو يحقق لها ما ورد في نظرية »الجدار الحديدي«، وما تضمنه البيان الأول لعمليات الجيش الاسرائيلي في غزة في ٢٧/١٢/٢٠٠٨. ويلوح لي أن وثيقة رايس ـ ليفني هي أخطر ما أنجبته هذه الحرب. فهذه الوثيقة عبارة عن اتفاق ثنائي، لكن بالتزامات جماعية. فالفقرة الأولى منها تنص على ما يأتي: »يعمل الشريكان مع الدول المجاورة، وبشكل متواز مع المجتمع الدولي، على منع إمداد السلاح للمنظمات الإرهابية التي تهدد أياً من الشريكين خاصة السلاح والمتفجرات التي تُهرَّب إلى غزة لمصلحة حماس والمنظمات الإرهابية الأخرى«. وهذا يعني وضع قطاع غزة، ومعه سيناء، تحت المراقبة الدولية الدائمة. وتشمل هذه المراقبة حتى السفن في البحر المتوسط والبحر الأحمر وخليج عدن وشرق أفريقيا وبحر العرب.
لا بد من التهدئة العسكرية في آخر المطاف حتى لو كان ذلك بـ»التفاهم الصامت«. وإذا ما جرى التوصل الى تهدئة جديدة، من خلال مصر أو غيرها، فهذا يعني أن إسرائيل تمكنت من »ردع حماس« وأرغمتها على العودة الى التهدئة القديمة، أي تهدئة مع إسرائيل وصراع دموي مع »فتح«. وها نحن نقرأ بذهول أن حماس عادت الى إطلاق النار على أعضاء في حركة فتح وفي الجبهة الشعبية أيضا. مهما يكن الأمر، فمن الراجح أن يتم التوصل إلى التهدئة في نهاية المطاف لأن ثمة اعتقادا لدى حماس بأن اتفاقا جديدا للتهدئة سيمنحها نوعا من الانفتاح الدولي والعربي، وسيكافئها بفك الحصار عن غزة، وبفتح أبواب القاهرة على مصاريعها، الأمر الذي يكرس سيطرتها على غزة. وربما يُضاف الى ذلك إطلاق سراح الجندي جلعاد شاليط لقاء إطلاق أعداد من الأسرى الفلسطينيين. وفي هذه الحال ستعتبر حماس هذه العملية كلها انتصارا لها، وستدعو الجميع الى الاعتراف بها كما جاء على لسان خالد مشعل حينما بشرنا بتحقق »النصر الرباني« في خطابه الذي قال فيه بصراحة: »آن لكم أن تتعاملوا مع حماس«، لا مع منظمة التحرير الفلسطينية (راجع الخطاب في صحف ٢٢/١/٢٠٠٩).
لكن الستاتيكو »الجديد« سيكون، في هذه الحال، هو نفسه تقريبا الذي كان قائما في سنة ٢٠٠٧، أي العودة سنتين الى الوراء. وسيحقق هذا الوضع الجديد انتصارا شعبيا لحماس، وربما ربع انتصار سياسي، لكن من دون أي تقدم جوهري نحو دحر الاحتلال. دولة ثالثة وكيانات أربعة في حزيران ٢٠٠٩ ستجري الانتخابات الايرانية في جو يشير إلى تراجع الإسلاميين نسبيا لفشلهم في المسألة الاجتماعية وفي المسألة الاقتصادية معا، مع أنهم لا يزالون يحظون بشعبية كبيرة بسبب الإنجازات التي حققوها على مستوى الأمن القومي في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين. وفي حزيران ٢٠٠٩ سيبدأ الجيش الأميركي الانسحاب من المدن العراقية الرئيسة، الأمر الذي يمنح الفصائل المسلحة مساحات جديدة للحركة تتيح لها مراجعة تكتيكاتها بحرية. وفي الربع الأخير من عام ٢٠٠٩ ربما تتمكن إيران من اجتياز العتبة الصعبة التي تحقق لها وضع قدميها بثبات على طريق تصنيع سلاح نووي. ماذا ستفعل إسرائيل إذاً؟ هل تبادر الى عملية عسكرية منفردة ضد إيران تجعل الصراع في المنطقة دوليا وأوسع من الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي؟ أم تبقى ساكنة في انتظار نتائج الحوار الأميركي ـ الايراني المرتقب؟ إنها أمور باتت متشابكة جدا، ما يعني أن عدم الاستقرار سيكون إحدى سمات الحقبة المقبلة. وفي خضم هذه الأوضاع يبدو أن الفلسطينيين فقدوا الفرصة التي تتيح لهم تطوير شكل جديد من الوحدة الوطنية، أي تطوير نظام سياسي يستوعب التعددية السياسية، ويدير المقاومة والتفاوض والحياة اليومية معا. ولعل من أسباب فقدان هذه الفرصة الاحتلال الإسرائيلي نفسه الذي عمل بجميع الوسائل على تحطيم أي شكل من أشكال الكيانية الفلسطينية، وقد كانت السلطة الفلسطينية أولى ضحايا هذه الحرب. وقد بات واضحا تماما، على ما أرى وخلافا للكلام الجاري في وسائل الإعلام عن تواطؤ السلطة الفلسطينية مع الاحتلال، أن إسرائيل لا تكترث للسلطة الفلسطينية، فهي سعت ولا تزال تسعى الى »شرشحة« هذا السلطة وإنهاكها. وإسرائيل لا يهمها سيطرة حماس على غزة في ما لو ضمنت أمنها. ومما يلائم إسرائيل بالفعل أن تبقى حماس مسيطرة على غزة ومقيدة في الوقت نفسه بمفاعيل اتفاقية رايس ـ ليفني، وأن تبقى السلطة الفلسطينية مسيطرة على الضفة الغربية ولكن ضعيفة. وهذا ما يقدم لإسرائيل الذريعة الذهبية القائلة انها لا تتفاوض مع إرهابيين (أي حماس)، ولا يمكنها توقيع اتفاقات مع طرف ضعيف. ولماذا توقع اتفاقات مع هذا الطرف في الأساس ما دام لا يهدد أمنها، أو لأنه بات في وضع لا يستطيع تهديد أمنها حتى لو أراد ذلك؟ ومما لا ريب فيه أن إسرائيل ستكون في غاية السرور إذا خرج قطاع غزة من الكيان السياسي الفلسطيني، فهي لا يهمها السلام في أي حال، بل ان ما يشغلها حقا أن تكون دولة يهودية قوية، بل أقوى من جميع »جيرانها«. كان الإسرائيليون يصرّون على اعتبار الفلسطينيين شعبا فائضا، وان المنطقة الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط لا تحتمل وجود دولة ثانية. وقد استطاعت حركة فتح والفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية إقناع العالم بقبول حل الدولتين. وكان لا بد من نضال طويل لتحويل هذا القبول الى أمر واقع. لكن »مغاوير حماس« تمكنوا من إقامة البرهان في ١٤/٦/٢٠٠٧ عن أن في الإمكان قيام ثلاث »دول« في المكان نفسه. فلماذا دولتان فقط؟ وقد وقع ذلك جراء تصادم مشروعين: مشروع وطني يسعى الى دولة مستقلة للفلسطينيين، ومشروع إسلامي أممي لا تحتل فيه فلسطين إلا ركنا واحدا (حتى لو كان ركنا أساسيا) إلى جانب المشكلات الكبرى للمسلمين مثل أفغانستان وكشمير وكوسوفو وقبرص وغيرها. للأسف الشديد فإن الأمور تتجه الى ترسيخ دولة يهودية في إسرائيل، والى تأسيس إمارة إسلامية في غزة في الوقت نفسه. ومن الواضح أن الانقسام الجغرافي يجعل الأمور تتطور في غزة، اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا وبشريا، بطريقة يصبح من الصعب معها في المستقبل إعادة الوحدة بين المنطقتين بصورة حقيقية. وقد كان لافتا عدم رفع أي علم فلسطيني في الاحتفالات التي تنظمها حركة حماس، حتى الكوفية الفلسطينية التقليدية، وهي بالأبيض والأسود، صارت اليوم في غزة بالأخضر والأبيض. فإذا كانت حماس استندت الى الإسلام كأداة تعبوية، علاوة على كونه عقيدة، فإن الإسلام سيصبح على يديها، في ما لو ترسخ انفصال القطاع عن الضفة، أداة للحكم، أي سيجري فرض الحجاب على النساء، وإقفال دور السينما، ومنع السباحة، وفرض الرقابة على الكتب والمطبوعات، وإرغام الناس على سلوك طريقة حياة ربما لا يرغبون في سلوكها. وستتحول حماس من منظمة مقاومة إلى حزب في السلطة، وسيتحول الفلسطينيون الى العيش في كيانين بائسين: الأول سعيد في حصاره والثاني تعيس في حصاره (عزمي بشارة، »أزمة السلطة الفلسطينية«، جريدة »الخليج« الإماراتية، ٢١/٦/٢٠٠٧). وبذلك يكون المشروع الوطني الفلسطيني الذي ظهر على يدي حركة فتح في سنة ١٩٦٥ قد تحلل واندثر ولو الى حين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق