تحول الاعتدال – بقدرة الهية – خلال فترة قياسية إلى نور متوهج كان لازمًا على الجميع الإهتداء إليه.. ففيه الخلاص وفيه أهل الحق وفيه المنطق وفيه كل مقومات المجتمعات الباحثة عن الكمال وما دونها ظلمة وظلام وجهل وتطرف. لكن المفارقة في لوحة الكمال هذه أن نور الإعتدال توهّج أكثر مما ينبغي حتى أعمى معظم المنتمين إليه عن ماهيته الحقيقة. فلم يعد الاعتدال اعتدالاً ولم يعد النور نورًا.. فماذا حصل لهؤلاء، وكيف تاه المصطلح عن سراطه المستقيم. في الواقع لم يخرج "المبدأ العام" لهؤلاء عن طريقه لأنه لم يكن على السكة المنشودة أساسًا.. ما يعني أن خطاب السياسي المعتدل ذلك لم يكن سويًا حتى يتحول إلى خطاب متطرف. ويكفي أن تجول على خطابات زعماء الاعتدال، ومحطاتهم التلفزيونية وصحفهم حتى تلمس الأمر بنفسك. يكفي أن تقرأ مقالاً لمعتدل عربي كي تكتشف جوهر التطرف والفوقية.. وطالما أنت هناك يمكنك أن تتعلم شتائم جديدة لا وبل أن تسلي نفسك بإحصاء كم كلمة "غوغائي.. وعميل.. والمحور الإيراني السوري.. والمد الشيعي" تمر في المقال. يقول المنطق العام للاعتدال أن التكتلات ممنوعة، فلا مواجهات ولا تصادم، فالمفهوم العام يتمتع برحابة صدر تستوعب الجميع. فصاحب هذا الصدر يمتلك "ميزة" الوقوف على مسافة واحدة من الجميع، لا بل يمتلك ملكة الخطابة المنطقية القادرة على جذب ألد أعدائه. في جنة الإعتدال لا تسمع الكثير من الشتائم ولا بكواليس قمم تخطط لقلب الدينا رأسًا على عقب على الآخرين... فلا مؤامرات ولا ظلم ولا قمع ولا ديكتاتوريات.. أرباب الاعتدال يتمتعون بموهبة خارقة تدفعهم للاستماع إلى مطالب شعوبهم،التي من المفترض أنها تعيش في نعيم ما بعده نعيم تحت إدارة معتدلة تنشد كل ما يتصل بهذه الكلمة. حسنًا، إن رصد أيٌّ منكم هذه الجنة، فليبلغنا فورًا. لا بل سنخصص أرقام هواتف لاستقبال مكالمتكم. دعونا نخرج من جنة المثالية هذه ونتحدث جديًا... فلنكف فعلاً عن المزاح قليلاً. بعيدًا عن إرتباط المفهوم بدول ومصالح ومواقف فإن "الإعتدال" بمفهومه المطلق أنجع الحلول وإن كان فضفاضًا يحتمل إلباسه لجهات ومحاور عدة. لكن المثير في آلية التطبيق أن المعتدل المعني يريد إرساء قواعده مهما كلف الأمر. وعليه فهو مستعد للذهاب إلى الحدود القصوى والعمل والكد والقيام بكل ما قد يخطر بباله لضمان إستمرارية قناعاته.. فهو يريد تطبيق الإعتدال بكل تطرف. وعليه تظهر الوجوه عابسة والأصوات مرتفعة والأيدي الملوحة المنددة بمحاولة فرق "الاعتدال" تخريب عالمنا العربي المثالي. فعلا، يا لعار هذه الدول ويا لعار هذه الاحزاب ويا لعار حركات المقاومة، كيف تجرؤون وبأي منطق وبأي حق تحاولون تدمير المثالية السائدة. يا لعاركم!.. تصرخ شخصية سياسية معتدلة بقائد من حركة حماس واصفة إياه بأبشع الصفات، متهمًة إياه بأنه يسوّق لمبادئ تافهة ومدمرة وبين سيل الشتائم الجارف تمر كلمة "حمار".. .. تنفض صحيفة معتدلة، ثم تنفضها مجددًا، تنظر إلى الأسفل لعل بعض الكراهية تنهمر منها كي تتمكن من متابعة القراءة دون التأثر بالكم الهائل من الحقد الموجه بإتجاه طرف واحد. تبحث عن التحليل علك تجد بعض المنطق في كل ما يقال، فلا تجد سوى كلام سمعته مرارًا وتكرارًا.. الطرف الآخر تافه وعميل ولا تهمه مصلحة البلاد، عملاء وخونة، يسرقون خيرات بلادهم، قتلة، زعماء عصابات. .. تنتفض يدك عن الريموت كونترول، وتعود إليك بصفعة على وجهك لأنك تجرأت وشاهدت نشرة أخبار معتدلة. عليك الآن البحث عن البقية المحذوفة والمحورة في هذه النشرات كي تستوعب المشهد كاملاً. تشبه جنان الإعتدال هذه جنة غريغوري راسبوتين الراهب الفاجر. وكأن وصم أنفسهم بصفة الإعتدال أشبه بمبدأ راسبوتين الذي جمع فيه بين الورع والأفعال الجنسية الفاضحة فكان القرب من الله بالنسبة إليه منوط بارتكاب الذنب عمدًا ثم التوبة. وهكذا هي الحال حين تصبح طريق وآلية تطبيق الإعتدال مشبعة بالتطرف ولا تستند إلى رفض الآخر فحسب بل القضاء على الآخر كليًا. فالتقرب من النور المتوهج منوط بالمصالح الضيقة للأشخاص والدوس على الشعوب ثم عدم التوبة خلافًا لراسبوتين الذي كان يتوب على الأقل ثم يعاود افعاله الفاجرة. لا مكان لاستراحة المحارب في واقعنا العربي.
محاور الاعتدال لا تسمع سوى نفسها ولا ترى في من يخالفها الرأي سوى الاخر المتطرف، الشعوب ومطالبها إضافات هامشية لا مكانة ولا وزن لها،الديمقراطية هي الأنا العمياء التي تنظر فلا ترى وتنصت فلا تسمع وتفتح فمها فلا تنطق. في المقلب الاخر وفق تناقض الكلمات،"محور التطرف" الذي يضم دولاً وجماعات دينها التطرف. و"التطرف" هنا يتخذ صفة الإنتماء إلى حركات مقاومة بشكل عام أو حركات دينية... أو طائفة بعينها بشكل خاص. ووفق منطق الإعتدال، فإن الهجوم غالبًا ما يطال القيادات والمبادئ محيدة في مرحلة ما الشعوب المؤيدة... والتحييد هذا يأتي في حالات خاصة جدًا، كغزة مثلاً أما في الحالات الاخرى فإن الصفة تطال الجميع من قيادات وشعوب. لمحاور "التطرف" وسائلها الإعلامية الخاصة بطبيعة الحال التي تروج لها ولمبادئها، وبما أنها مسيسة ومسيرة وفق توجه ضيق، فإنك تعلم جيدًا أنك لا يمكنك إعتمادها كمصدر واحد أوحد للمعرفة. لكن الفرق بينها وبين إعلام الإعتدال إن الأولى لا تدعى الحياد خلافًا للثانية. ... لا يمكن لمعتدل أن يتقبل مبدأ حق الدفاع عن الارض وتحريرها، يحبذ بطولات التفاوض والمعاهدات. وبالطبع لا يتقبل الانتقاد والنقد، وإن كان يحب إعتماده اسلوبًا لحياته فهو دائمًا المحق الذي يمكنه إنتقاد الاخر وإتهامه وتصويب طريقه لمواجهة "الحملات المسعورة " لأنه- ووفق مفهوم هذا المعتدل وبما أن كلمة "المسعورة " مرتبطة بالكلاب - فإن كل منتقد له ينتمي إلى هذه الفصيلة من الحيوانات. والمفارقة المضحكة في كل هذا أن "أبناء التطرف" يتقبلون المعتدل بتوجهاتهم وقناعاتهم كما هي. فلا تجد سوى المعتدل دائم التوتر يوزع اتهاماته ونعوته هنا وهناك، يصرخ ويهدد ويلوح بهذه الخيارات أو تلك. فما رأيكم بهذا التطرف المتقبل للاخر بمواجهة المعتدل المصنف للاخرين بالكلاب والحمير. حسنا.. لن ندخل في نقاش المصطلحات الآن لأننا نعلم مسبقًا ان "الكلاب والحمير" ستعاود الظهور... ولا يريد أي منا ظهورها مجددًا.
منقول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق