(1)
في كانون ثاني (يناير) عام 2008 وبعد تفجير مقطع من الجدار الحدودي بين مصر وقطاع غزة و«سكوت» مصر آنذاك على هذا الحدث ،سألتني إحدى وكالات الأنباء الفلسطينية عن سبب تساهل أو سكوت مصر على ما جرى فكان من ضمن إجابتي:-
- موقف الحكومة المصرية بالسكوت عن تفجير الجدار الحدودي بين غزة ومصر نابع من عدة أسباب منها غضب القيادة المصرية من الرئيس محمود عباس الذي يرفض فتح باب الحوار مع حركة حماس...الرئيس الراحل ياسر عرفات كان ينسق كل خطواته تقريبا مع المصريين وقد تعرض لانتقادات بسبب هذه السياسة، كما أن المصريين فتحوا قنوات مع كل القوى الفلسطينية وأصبحوا طرفا أساسيا في أمور عدة تتعلق بالعلاقات الداخلية وبعض الأمور المتعلقة بالصراع مع إسرائيل مثل مسألة الجندي شاليط؛ لكن الرئيس عباس يرفض الاستماع كما هو واضح للمصريين فيما يتعلق بفتح باب الحوار أو تبريد الأجواء مع حماس، وهو موقف يغضب المصريين بلا شك، خاصة أن عرفات والذي كان أقوى بمرات كثيرة من عباس، وكانت حماس في زمانه أقل قوة، لم يكن يتردد بالاستجابة لنصائح المصريين... المصريين يرسلون بذلك رسالة واضحة لأبي مازن وفريقه، وفيما فتحت الحدود وتنفس القطاع ولو جزئيا وباتت حماس قادرة على الصمود فترة طويلة بلا تعب، يقوم الرئيس المصري بانتقاد حركة حماس، وهذه لعبة بارعة من المصريين الخبراء في خبايا المنطقة.
- الرئيس جورج بوش لم يزر مصر إلا سويعات قليلة ألقى فيها دروسا في الديمقراطية، والإعلام الغربي يسهب بالحديث عن حقوق الإنسان في مصر وحقوق الأقليات، بل تمادى البعض وتحدثوا عن مخططات لتقسيم الدولة المصرية بين النوبيين والمسلمين والأقباط، كل هذا نابع من شعور بأن مصر ليس لديها ما تفعله، فكانت خطوة مصر الأخيرة رسالة معبرة بان اللعب مع مصر له ثمن كبير وأن لا مشكلة لو قويت حماس في غزة أكثر مما هي قوية إذا كان الأمر يتعلق بوحدة مصر ومستقبلها.
- صوت الشعوب بات يعمل له حساب في الوطن العربي وسيزداد تأثير الشعوب، وعليه فإن مصر لا يمكن أن تغمض عينها عن حركة الجماهير وتغلق أذنيها عن أصواتهم المطالبة بفض الحصار عن غزة، لا سيما أن شعبية مصر (كدولة ونظام) ستزداد أو تتحسن...مشكلة مصر هي في مسألة الربط بين الإخوان المسلمين وحركة حماس، ولكن يبدو أن الدولة باتت تدير هذه المعادلة بطريقتها، فأجهزة الأمن تقمع الإخوان ومناصريهم المحتجين، وفي نفس الوقت تنسق مع حماس بشأن غزة، فيبدو أن مصر تأكدت بأن حماس جادة وصادقة فيما أعلنته مرارا وتكرارا أن معركتها مع الاحتلال وأنها لا تتدخل بتاتا في شئون الدول العربية الداخلية،والإخوان والنظام المصري خرجوا من أزمة غزة متعادلين شعبيا.«انتهى»
كان هذا رأيي آنذاك ،ولكن حدثت تطورات لاحقة كما رأينا ،وقد كررت الحديث عن علاقة مصر وحماس في مقال-نصه موجود في نهاية هذا المقال،تحت عنوان «العلاقة بين مصر وحماس..إلى أين؟!» وذلك في آب(أغسطس) من نفس العام الماضي أي بعد شهور على إزالة مقطع من الجدار الحدودي،وتعليقي على ذلك لوكالة الأنباء المحلية،وما حدث من تطورات متسارعة،يدفعني ودفع غيري لإبقاء هذا الملف مفتوحا للنقاش،لا سيّما في هذا الوقت بالذات حيث أن حكومة الاحتلال المنصرفة تنكرت لاتفاق التهدئة الجديد وأحرجت مصر،وحكومة الاحتلال القادمة برئاسة نتنياهو لن تتردد في محاولة إحراج مصر أو محاولات دفع القيادة المصرية لتبني مواقفها كاملة بلا نقاش.
أعود إلى أول نقطة في إجابتي لوكالة الأنباء من أن مصر أرادت إرسال رسالة لرئاسة السلطة ،فهل وصلت الرسالة؟بالتأكيد نعم؛لدرجة أنه في أوج المحرقة الصهيونية في القطاع نظمت حركة فتح والسلطة مسيرات في الضفة الغربية رفعت صور الرئيس المصري والأعلام المصرية،ويجب ألا ننسى أن سفير السلطة في رام الله لدى القاهرة هو «نبيل عمرو» ومن السذاجة بمكان توقع دور السفير العادي لعمرو في مصر،فبكل تأكيد هو يبذل قصارى جهده لتحريض مصر على حماس ،وإيغال صدور المسئولين المصريين على قادة الحركة ،وعدم التساهل معها إلا إذا قبلت بالرضوخ لرؤيته ورؤية الفريق الذي يمثله!
(2)
بعد عودة الغزيين إلى قطاعهم من العريش ،وذلك مباشرة بعد شرائهم لحاجياتهم،أعادت السلطات المصرية بناء الجدار الحدودي بشكل أمتن وأقوى من السابق،وبدأ وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط يهدد «بكسر رجل من يعبر الحدود» وشنت الصحافة المصرية الرسمية عبر أقلام كبار صحفييها ومنظريها حملة عنيفة على حماس محملة إياها مسئولية الحصار المفروض،ورغم كل النداءات والمناشدات أبقت السلطات المصرية معبر رفح مغلقا،وكان هناك تعثر في ملفي صفة شاليط والحوار الوطني،وكانت كل المؤشرات تشير إلى أن التهدئة ستسقط لا محالة.
في ملف الحوار الوطني فقد دعت مصر الفصائل الفلسطينية إلى حوار يبدأ في 10/11/2008م وشعرت حماس بأن مصر منحازة تماما لفريق رام الله،وأن هدف الحوار فقط هو إعادة سلطة فتح إلى غزة دون الاتفاق على بقية القضايا الشائكة،كما أن السلطة لم تطلق سراح المعتقلين في سجونها في الضفة الغربية،إضافة إلى إشكاليات أخرى،فقاطعت حماس جلسات الحوار تلك،مما أغضب مصر،حتى أن مصادر صحفية ذكرت أنه حتى رئيس المخابرات المصرية «عمر سليمان» طالب بمعاقبة قادة حماس في دمشق وغزة على هذا الموقف،علما بأن رئيس المخابرات ومساعديه ظلوا طوال الفترات السابقة يتعاملون مع حماس بدفء أو لنقل بواقعية أكثر من وزارة الخارجية مع حماس.
التهدئة التي رعتها مصر لم تفتح المعابر إلا جزئيا وخرقها جيش الاحتلال مرارا وتكرارا ،وكأن على أهل القطاع أن يختاروا ما بين الموت من الحصار والقهر،أو الموت بالقنابل والصواريخ،وكان واضحا أن ثمة ما يدبر في الخفاء.
في مصر وهي تقف بجانب وزير خارجية أكبر الدول العربية أطلقت وزيرة الخارجية الصهيونية «تسيبي لفني» تهديداتها ضد حماس ،وما هي إلا ساعات معدودة عقب مغادرتها لمصر حتى بدأت المحرقة الصهيونية والحرب على غزة في 27/12/2008م لتنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة أخرى .
(3)
رغم المحرقة أبقت مصر معبر رفح مغلقا ،وأوعزت الحكومة لحملة الأقلام الموظفين لديها تحميل حماس مسئولية ما يجري من قتل ودمار بدل مهاجمة الاحتلال،واتهام حماس بأنها «لعبة» في يد إيران؛فثار الشارع المصري والعربي ضد هذا المنطق الواهي،وبدا أن موقف العرب الرسمي لم يكن من الضعف منذ 60 عاما مثلما هو عليه الحال في ظل العدوان الهمجي على غزة،ولكن المقاومة صمدت وامتصت الضربة وحكومة غزة بقيادة حماس ظلت متماسكة ،لدرجة تمكنها من دفع رواتب موظفيها في ظل القصف،وكل دقيقة تمضي تضع النظام الرسمي العربي في موقف حرج،فالاحتلال غير قادر على سحق المقاومة،ومنظر الأطفال الممزقة أجسادهم والأسر التي تتعرض لإبادة تعرض على مدار الساعة على شاشات التلفزة محدثة غضبا وحزنا في قلوب الناس...
أطلقت مصر مبادرتها مع الرئيس الفرنسي ساركوزي،وفي ذات الوقت الذي أعلن فيه الرئيس المصري أن معبر رفح سيفتح فقط وفق اتفاق 2005 ،وهو بالمناسبة انتهى وتم تجديده مرة،ومصر ليست طرفا فيه،واستمرت المحرقة وارتفع عدد الشهداء.
ووجهت «لفني» إهانة جديدة لمصر فطارت إلى واشنطن لتوقع مع كونداليزا رايس التي توشك على ترك منصبها اتفاقا أمنيا يهدف حسب زعمهما إلى منع تهريب السلاح إلى المقاومة في غزة،وطالبت حكومة الاحتلال بوجود مراقبين أجانب على الشق المصري من الحدود ،وبدا الانقسام العربي واضحا بشكل مؤلم،وقاطعت مصر قمة الدوحة،وأقر أبو الغيط مؤخرا انه عمل بجد على تعطيلها وإجهاضها!
صمدت المقاومة وانتصرت وأصبح واضحا بأن حماس رقم صعب في المعادلة لا يمكن تجاوزه أو احتواؤه سواء بالحصار أو المقاطعة أو «بالفسفور الأبيض» وبرز لاعبون جدد في المنطقة مثل تركيا التي كان موقف رئيس وزرائها أفضل بكثير من الموقف الرسمي العربي عموما والمصري خصوصا.
ومن مصر ظهرت أقلام شريفة وأصوات مفكرين وكتاب حكماء انتقدوا موقف حكومتهم،حتى محمد حسنين هيكل المعروف تاريخيا بأنه ضد الإخوان المسلمين انتقد بصراحة موقف حكومة بلاده مما يجري.
(4)
لم تفتح مصر معبر رفح بشكل كامل بعيد المحرقة ومنعت العديد من الطواقم الحقوقية التي تهدف إلى استقصاء الحقائق تمهيدا لمحاكمة مجرمي الحرب الصهاينة ،إضافة إلى صحفيين ومتضامنين من مصر وخارجها من الدخول،وحتى أن جرحى العدوان أفادوا بتعرضهم للمضايقات وخضوعهم لاستجوابات أجهزة الأمن المصرية.
وهنا تحركت مصر لدعم اتفاق تهدئة جديد،فدعت قادة حماس في دمشق وغزة للحضور إلى القاهرة لهذا الغرض لمناقشة هذه المسألة إضافة لموضوع الحوار الوطني الفلسطيني،وموضوع إعادة الإعمار ،وملف صفقة التبادل.
واستمرت مصر في هدم وتدمير الأنفاق وملاحقة التجار الذين يرسلون البضائع عبرها حتى كتابة هذه السطور،فيما أبدت حماس مرونة كبيرة في جميع الملفات،ولكن الاحتلال تنكر لاتفاق التهدئة،ثم تملص من استحقاقات صفقة التبادل،ووضعت نتائج الانتخابات الأخيرة في الكيان جميع الأطراف وخاصة مصر أمام أسئلة صعبة تحتاج إلى إجابة واضحة!
(5)
موقف حماس تجاه كل ما سردناه كان موقف الصبر والأناة والحكمة،فهي تعلم أن هناك في مصر من يستغل أن مصر هي الرئة التي يتنفس منها القطاع،وأن هناك من يريد أن يحملها مسئولية جرائم الاحتلال .
ولكن حماس بمرونتها وحكمتها أظهرت الصورة بوضوح أكثر؛فالحديث عن حساسية مصر وارتفاع منسوب الغيرة الوطنية فيها أمر تحترمه حماس ويحترمه كل عربي،ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بغضب:لماذا تستحضر هذه المشاعر والأحاسيس فقط ضد حماس؟حماس التي رغم وجود معتقلين لها في السجون المصرية(مثل القيادي القسامي أيمن نوفل) ورغم ما تسمعه من تجريح وقدح وتشكيك وهجوم من المستوى الرسمي والإعلامي في القاهرة ،بقيت تؤكد على دفء علاقتها بمصر وأهمية هذه العلاقة ،ولم يسجل في سجل حماس أي اعتداء على مصر؛فمن اختطفوا الدبلوماسي المصري «حسام الموصلي» قبل عامين في القطاع ليسوا من عناصر القسام ،ولم يسجل عن حماس تدخلها في الشئون الداخلية المصرية...لماذا لا تكون المشاعر والمواقف حادة ضد الكيان؛ولقد ذكرنا ما فعلته «لفني» وأيضا تهديدات «ليبرمان» ومطالبته العلنية بقصف السد العالي ،وتهجمه على شخص الرئيس مبارك بالقول:«فليذهب إلى الجحيم» ،ماذا لو أن عنصرا من الصف العاشر من حماس تفوه بكلمات أقل حدة ضد الرئيس المصري،كيف سيكون رد فعل الصحافة المصرية وخلفها الحكومة المصرية؟ولنتذكر أن «ليبرمان» هو صاحب الكتلة الثالثة في الكنيست حاليا وقد يتولى منصبا سياديا هاما فهل ستعلن مصر أن هذا الشخص «غير مرغوب فيه في مصر» أم ماذا؟هل أصبحت المشاعر الوطنية حسب المزاج وتستحضر ضد طرف هو أخ في الدين والقومية وشريك في المصير،ويتم تناسيها ضد طرف آخر هو عدو لئيم؟ومصر تعلن أنها لن تقبل بوجود «إمارة إخوانية إسلامية» على حدودها،حسنا،فلماذا تقبل كيانا صهيونيا يهوديا يمتلك مئتي قنبلة نووية على نفس الحدود؟
هذا يقودنا إلى التفسير الذي يردده مفكرون وكتاب من مصر وخارجها حول مخاوف مصر من تعاظم قوة الإخوان المسلمين لديها في حال تعاظمت قوة حماس في القطاع؛وموضوع توريث الحكم الذي يتطلب ترتيبات مع واشنطن أو «مقايضة» سياسية معها ،وبديهي القول أن هذا ليس في صالح الأمن القومي المصري ،ولا حتى في صالح الحزب الحاكم هناك؛وطبعا حاشا وكلا أن أكون أنا من يحدد لمصر ما هو في صالحها وما هو ليس بذلك،ولكن هذا ما يقره مصريون وطنيون مطلعون على الوضع،ثم أن التجارب أثبتت ذلك بما لا يدع أي مجال للشك.
(6)
مصر الآن بيدها ملف الحوار وستستضيف مؤتمرا لإعادة إعمار القطاع،وهي ما زالت الوسيط في مسألة شاليط ،وهي على وشك الوقوف في مقابل حكومة بقيادة نتنياهو ،وبات معلوما لدى مصر أن حماس مستعدة للتعاون إلى أبعد مدى معها في جميع هذه الملفات ،ولكن الطرف الصهيوني تنكر وانقلب على عقبيه ومسألة التهدئة الجديدة خير برهان،ولا يكفي تجميد بعض العلاقات التجارية مع الكيان،فالمطلوب من مصر أكثر من ذلك ليس دفاعا عن حماس ولا حتى عن الشعب الفلسطيني بل عن الكرامة المصرية والدور المصري إقليميا ودوليا،وهذا يتطلب وقف الهجوم على العرب والفلسطينيين بالقول بأن مصر قدمت آلاف الشهداء وتعرض اقتصادها للضرر الكبير في حروبها العديدة مع الكيان،حيث أن الكيان خطر عليها أولا في الماضي والحاضر والمستقبل،وخلال 36 سنة أي بعد حرب رمضان 1973 لم تجن مصر الشيء الكثير على مختلف الصعد،وهذا ليس تحريضا على حرب أعلم أن مصر لا تريدها ،ولكن الكيان يتآمر على مصر وسعى ويسعى وسيسعى لابتزازها وخلق الفتن داخلها،وحماس حركة داعمة لمصر في هذه الحرب غير المعلنة مع الكيان وعليه فإن أقل ما يمكن لمصر فعله يتلخص فيما يلي:-
1) دعم حوار وطني جاد والوقوف فعلا لا قولا على مسافة واحدة من فتح وحماس ،والسعي لإبرام اتفاق كامل يبني فوق الاتفاقيات السابقة ويحييها خاصة اتفاق القاهرة عام 2005 ،وأن تبقى مصر على تواصل لضمان استقرار الجبهة الداخلية الفلسطينية ،عبر دعم برنامج مشترك تجمع عليه كل الفصائل.
2) فتح معبر رفح فورا وبلا تأخير،ويمكن ذلك وفق تفاهمات 2005 مؤقتا،ولكن شريطة ضمان إقامة المراقبين الأوروبيين في الأراضي المصرية،حتى لا تبقى مصر وسيادتها محكومة لضابط صهيوني في معبر كرم أبو سالم.
3) أن توصل مصر رسالة واضحة للاحتلال سواء الحكومة المنصرفة أو القادمة بأنه من غير المسموح له العبث والتنكر لمتطلبات التهدئة واستحقاقات صفقة التبادل.
4) يجب ألا يكون ملف إعادة الإعمار وسيلة ابتزاز سواء لحماس أو للمشردين من أهل القطاع ،ويمكن لمصر أن تعمل الكثير في هذا المجال.
5) أن تفصل مصر بين حماس كحركة مقاومة فلسطينية رئيسية منتخبة،وبين صراعها مع إخوان مصر،وتأخذ سوريا في ذلك أسوة إذا أرادت،أو أن توجد أي صيغة تشاؤها شريطة ابتعاد هاجس الربط بين حماس وإخوان مصر.
6) وقف الحملات الإعلامية ضد حماس ،والتوقف عن فكرة ربط حماس بمحور إيران أو غيرها،فحماس معنية بعلاقات طيبة ومتينة مع الجميع لأن فلسطين تحتاج لجهود الجميع.
هذا أقل ما يمكن لمصر القيام به ،وإلا فإن مصر ستخسر ومعها فلسطين والأمة بأسرها ،وسيواصل الاحتلال صلفه وعدوانه،في الوقت الذي تنشغل مصر بشتم إيران،ومناكفة سوريا وقطر،ولأن الله خلق قانونا يقول بأن الوعاء أو الحيز يجب ألا يكون فارغا ،فإن الفراغ لا بد أن تملأه قوة غير مصر-مع الأسف- ،والطالب النجيب الذي يحوز على الدرجات الممتازة لا يقارن عادة بالطالب الكسول ،ومصر بحجمها وتاريخها وأهميتها لا يمكن أن تبقى –على لسان بعض كتاب السلطة- تتحدث عن دور بسيط جدا تقوم به مقارنة مع ما بيدها من أوراق مهمة وقوية!
فيما يلي نص المقال حول نفس الموضوع والذي كنت كتبته في 10/8/2008م
العلاقة بين مصر وحماس...إلى أين؟!
بقلم:سري سمور-جنين-فلسطين المحتلة
قبل أيام أعلنت مصر على لسان متحدث باسم وزارة الخارجية أن معبر رفح لن يفتح إلا بعد عودة العناصر التابعة لرئيس السلطة الفلسطينية للسيطرة عليه،هذا التصريح يضفي جوا من التوتر على العلاقات بين حركة حماس والحكومة المصرية لأن هذا الشرط يتطلب إنهاء حالة الانقسام القائمة حاليا وبناء مصالحة وطنية كاملة بين رام الله وغزة بعد حوار وطني ،وهو أمر يبدو متعثرا في الظروف الحالية كما أنه يتطلب وقتا لن يصبر عليه العالقون والطلبة والمرضى وأي راغب في السفر من غزة وإليها،كما أن هذا الشرط يضع علامات استفهام حول مستقبل التهدئة التي رعتها مصر في قطاع غزة والتي يتوقع سقوطها في حال لم يفتح المعبر واستمر الحصار الذي كان شديدا جدا جدا جدا فأصبح بعد التهدئة شديدا جدا جدا!
الموقف المصري يطرح التساؤلات أو يعيد طرح تساؤلات قائمة منذ سنوات عن طبيعة العلاقة بين حركة حماس وبين الدولة المصرية وملابساتها ومستقبلها،وانعكاس هذه العلاقة على الوضع الفلسطيني الداخلي وعلى مستقبل الصراع مع الاحتلال الصهيوني.
ولأن المجال لا يتسع للخوض في كل الجزئيات فسأحاول تسليط الضوء على مواقف وخلفيات ودوافع الطرفين :-
الموقف المصري...خلاف وارتباك وتخوف!
من الواضح أن هناك خلافا داخل مؤسسة الحكم المصرية حول كيفية التعاطي والتصرف مع حماس ،ولا ينبغي تفسير هذا الخلاف بفكرة « توزيع الأدوار » بين أركان الحكم في الدولة المصرية،لأن الخلاف أدى إلى ارتباك لا تريد مصر أن يظهر بكل تأكيد.
فموقف وزارة الخارجية على لسان الوزير أحمد أبو الغيط أو بعض المتحدثين باسم الوزارة يختلف بلا شك عن موقف المؤسسة الأمنية والوزير عمر سليمان مدير المخابرات،التشدد والتشنج تجاه حماس والذي وصل حد التهديد والوعيد وانعكس حتى على سكان قطاع غزة بقضهم وقضيضهم هو سمة واضحة لوزارة الخارجية،ومحاولة لعب دور الوسيط المتوازن بين حماس والاحتلال فيما يتعلق بالتهدئة وملف « شاليط » ،وبين الأطراف الفلسطينية في ظل الخلاف والانقسام من نصيب المؤسسة الأمنية،ولا يلغي أو يفنّد هذا الرأي وجود معتقلين من حركة حماس في السجون المصرية،نظرا للتشابك والتعقيد الموضوعي القائم في مصر.
أما عن موقف الطبقات السياسية والإعلامية الأخرى في مصر فقد اتسم بنوع من العدائية والتشكيك والتحريض على حماس وامتهن بعض حملة الأقلام من المقربين للحكم في القاهرة أسلوب «شيطنة» حماس وتحميلها وحدها المسئولية الكاملة عن حصار الشعب الفلسطيني وصولا إلى مهاجمة الشعب الفلسطيني بأسره!
أما الرئاسة المصرية فتحاول التحرك بين القطبين ،وكلنا يتذكر موقف الرئيس مبارك عقب إزالة الجدار الحدودي بين غزة ومصر ،وموقف الرئاسة هذا يأتي في سياق الترتيبات المستقبلية لوضع الجمهورية وآلية الحكم وانتقاله فيها،ومراعاة كل التغيرات المتوقعة والسيناريوهات المحتملة إقليميا ودوليا.
بالتأكيد لن نرى مصر (مؤسسة الحكم) تهيم حبا بحركة حماس نظرا لدوافع نفسية نشأت من قضايا داخلية ؛فالدولة المصرية ترى في حماس امتدادا لحركة الإخوان المسلمين بالمعنى الهيكلي والتنظيمي وليس فقط الأدبي والتاريخي والفكري كما تحاول حماس أن تبرهن في كل مناسبة،وقد أثبتت حماس عبر تاريخها ومنذ انطلاقتها قبل عشرين عاما أنها لا تتدخل في شئون الدول العربية الداخلية.
متى نرى تيارا في الحكم المصري يفصل بين صراع أو خلاف الدولة المصرية مع حركة الإخوان المسلمين الممتد منذ نهاية العهد الملكي وحتى الجمهورية الثالثة الحالية ،والذي اتخذ أحيانا شكلا عنيفا وقاسيا ودمويا خاصة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر(حملتي1954 و1965)،وبين تعامل مصر مع حماس كحركة مقاومة شعبية لا يستهان بحجمها لها أيديولوجية إسلامية وامتداد أو ارتباط تاريخي وأدبي مع إخوان مصر؟
ربما يكون الطرف الأمني في الدولة المصرية يحاول أن يجد صيغة لمثل هذا الفصل ،نظرا لأن مصلحة مصر كدولة وحتى مصلحة الحزب الوطني الحاكم تقتضي التعامل مع الواقع الفلسطيني كما هو بغض النظر عن إدارتهم للأزمة التي تأخذ مدّا وجزرا مع الإخوان في الداخل ،فبلا شك تدرك المؤسسة الأمنية أن الطرف الصهيوني سواء من في المعارضة أو في الحكم سابقا وحاليا ومستقبلا يسعى جاهدا لترحيل أزمة قطاع غزة إلى مصر وتحميل مصر مسئوليات أمنية وإنسانية وتوريط مصر بما لا شأن لها به ،وتحويل دورها المفترض وهو مساعدة الفلسطينيين بالحد الأدنى ضمن هامش المناورة المتاح لدور آخر يصل إلى حد لعب دور الوكيل عن الاحتلال ضمن خطة متدحرجة وبضغط أمريكي وربما بعروض من خلف الكواليس فيما يتعلق بالمنح والمساعدات وترتيبات الحكم في مصر مستقبلا،وأستطيع أن أؤكد أن المؤسسة الأمنية في مصر ولو كانت كارهة لحماس وحالمة بيوم تراها فيها قد اختفت إلا أنها في ظل الواقع ترى حكمها واستقراره في القطاع أفضل من السيناريو الفظيع الذي يحيكه أولمرت وباراك ونتنياهو وعاموس جلعاد ،ولكن ما حجم هذا التيار وما تأثيره في مصر ،بل ما مدى تأثيره على صنع القرار داخل المؤسسة الأمنية؟إن استمرار اغلاق معبر رفح رغم التهدئة الحالية والتعثر المستمر في إبرام صفقة تبادل الأسرى ،رغم التفاؤل الحالي بإنجازها بحلول شهر تشرين الثاني(نوفمبر)،كلها أمور تشي بأن التوجه العام في مصر الرسمية هو استمرار حالة الجفاء مع حماس حتى ترضخ الأخيرة للاشتراطات إياها والتي تجرد الحركة من مبادئها ولا تبقي بينها وبين خصمها السياسي فرقا إلا بالأسماء والمسميات.
وهنا لا بد من تحرك « عقلاء » السياسة والإعلام في مصر لإنهاء هذه الحالة لأنه ثبت تاريخيا أن محاولة حشر حماس في الزاوية والإمعان في استفزازها له نتائج لا يرتضيها خصومها أو منافسوها ،فحماس قبلت التهدئة ضمن وعود وتأكيدات وتطمينات برفع الحصار وفتح معبر رفح ،فإذا لم يفتح المعبر فهل ستستمر حماس في التهدئة؟الجواب سمعناه على لسان قادة الحركة وهو أنهم لن يتمسكوا بهذه التهدئة « ولتذهب التهدئة إلى... » إذا ما استمر الحصار ،ولا يفوتنا تزايد الحملات الأمنية في الجانب المصري ضد الأنفاق،مما يوحي بوجود مخطط متكامل لإخضاع حماس أو إحراجها لدرجة تفقدها كل مكتسباتها ،ويرى من يسعون لذلك أن حماس عاجزة حاليا عن فعل اي شيء سوى تنظيم المسيرات وعقد المؤتمرات الصحفية والتنديد والشجب،وأن حماس لا تجرؤ على قلب الطاولة حاليا لأنها-باعتقادهم- متمسكة بحكم غزة تحت أي ظرف؛ولكن هذا الاستنتاج والتحليل خاطئ مئة بالمئة ،والتجارب السابقة خير دليل ،والتحليل المنطقي هو الذي يشمل كل السيناريوهات والتوقعات مهما كانت نسبتها وعليه ،كيف سيكون موقف مصر إذا نفضت حماس يدها من التهدئة بحجة مقبولة لديها ولدى فصائل المقاومة الأخرى وهي عدم فك الحصار؟وهل وضع المراهنون على عجز حماس في حسبانهم احتمالية وصول الأخبار العاجلة التالية إلى سمعهم وبصرهم:-
« سقوط مئة صاروخ من طراز قسام على اسديروت وعسقلان خلال 24 ساعة » !
« تفجير دبابة ميركافاة بعبوة زرعتها المقاومة على حدود قطاع غزة » !
« عملية معقدة تسفر عن أسر جندي جديد ...أي أن يكون هناك زميل لشاليط » !
على الجميع خاصة من يسعون لإخضاع حماس ألا يفترضوا استحالة وقوع أي من أو حتى جميع هذه الأحداث ،وعندها سيهرول الجميع داعين حماس لضبط النفس وضرورة تثبيت تهدئة جديدة ،أما إذا كان هناك من يراهن أن عملية عسكرية واسعة في غزة ستحسم الأمر فليفكر مليّا وبعمق وليستحضر أي تداعيات ستجرها مثل هذه العملية على المنطقة بأسرها!
من هنا وجب على الحكماء والعقلاء في مصر،وهم كثر ولله الحمد،أن يخرجوا مصر الكنانة من « هوس » ازدياد خطر وشعبية الإخوان في مصر إذا تحسن وضع حماس في غزة،لأن الاستمرار في هذه اللعبة خطر جدا ،والمؤشرات ونواقيس الخطر تفصح عن أمور خطرة...إذا استمر الحصار،وحماس برعت في صنع المفاجآت في كل مرحلة!
موقف حماس...ديبلوماسية وضبط نفس وحذر!
في كل مناسبة تؤكد حماس على دفء وقوة العلاقات مع مصر،وأن مصر هي الرئة التي يتنفس منها القطاع ،وتنفي حماس أي شائعة تنشرها صحيفة هنا أو مجلة هناك عن مهاجمة أو انتقاد مصر ،ويحرص قادة حماس على مد جسور الود والتفاهم مع مصر ،وعلى الرد الإيجابي الحذر على اقتراحات مصر،دون المساس بثوابت الحركة ،فمن الحكمة أن تبقي حماس على علاقتها بمصر بل وتحسن وتطور هذه العلاقة،ورغم أنها ترى إعراضا في بعض الأحيان من الطرف المصري فهي لم ولن تقطع شعرة معاوية معه ،بل إن حماس ورغم ضغط قواعدها وأنصارها ونصائح المراقبين والمتابعين بل حتى كثير ممن يعنيهم الأمر وأقصد الأسرى ما زالت تضع ملف « شاليط » فوق الطاولة المصرية ولن تدعو أحدا لهذه الطاولة إلا بعد موافقة صاحبها المصري رغم التعثر الذي يكتنف هذا الأمر محملة الطرف الصهيوني مسئولية التعثر بسبب التعنت والغطرسة.
ولكن حماس حرصت في تعاطيها مع المصريين على الحفاظ على مواقفها المعروفة من القضية الفلسطينية بدبلوماسية واحتراف ،وتصر على مطالب واضحة لا نقاش فيها فيما يختص بصفقة التبادل المتوقعة،وترفض حماس نشر قوات عربية أو مصرية أو دولية في قطاع غزة لاعتبارات معروفة ولتيقنها بالجدل المحتدم داخل مصر حول هذه المسألة ،أما فيما يتعلق بموضوع الحوار الداخلي فحماس تدرك أنه رغم التحالف الافتراضي لما يعرف « بمحور الاعتدال » العربي الذي يضم ضمنا السلطة الفلسطينية والرئيس محمود عباس فإن علاقة هذا الفريق بمصر ليست بتلك القوة والدفء والمتانة التي كانت قائمة أيام الرئيس عرفات؛فمعروف أن الأخير كان يستشير مصر في أدق التفاصيل ويستمع للمصريين ويأخذ بنصائحهم إلا في حالات نادرة ،أما فيما تلا مرحلة عرفات فقد ضعفت العلاقة-نسبيا- بين رام الله والقاهرة،ولا أظن أن مصر تنسى أن الرئيس مبارك توقع بعيد الحسم العسكري في غزة أن تتم المصالحة الوطنية بعد شهر ومضى الشهر والذي تلاه وصولا إلى عام ونيف ولم تتم المصالحة،ولعل هذا ما دفع مصر لإرسال رسالة واضحة حين غض الأمن المصري نظره عن تفجير الجدار الحدودي في رفح مطلع العام الجاري ...صحيح أن مصر ترى ان كل طرف يقول أنه حريص على الوحدة الوطنية وإعادة اللحمة لغزة والضفة مع تمسك الفريقين بمطالبهما؛إلا أن مصر بدأت علاقتها بحماس عمليا خلال انتفاضة الأقصى أما علاقتها بالرئاسة الفلسطينية ومنظمة التحرير فقديمة ،وهي تلحظ التغير ،فأبو مازن ليس كأبي عمار في التعاطي مع مصر ونصائحها ،ولا شك أن هذا يستفز مصر.
كما أن حماس تدرك أن حرب مخابرات خفية تدور بين مصر والكيان العبري وان الأخير يسعى لنشر شبكات التجسس وإغراق المجتمع بالمخدرات والفساد ،وأن مصر خاصة المؤسسة الأمنية قد ترى في حماس رأس حربة تحمي بها كيانها ومجتمعها من الخبث الصهيوني ،خاصة أنها لا تستطيع حاليا خوض مواجهة علنية مفتوحة مع الكيان العبري،ولهذا لم تطلب مصر من حماس إعادة الوضع في قطاع غزة إلى ما كان عليه قبل 14/6/2007م وهو ما يصر عليه الرئيس محمود عباس ،بل إن رئيس المكتب السياسي لحماس الأستاذ خالد مشعل أكد في غير مناسبة أنه ليس ثمة دولة عربية واحدة طلبت من حماس هذا الطلب!
ولكن حماس في ذات الوقت تدرك حساسية مصر من الحركات الإسلامية التي هي واحدة من أهمها وأقواها،وتعي حجم الضغوط على مصر وهامش المناورة المتاح لها في ظل الإدارة الأمريكية الحالية وربما القادمة،مما يؤدي إلى بقاء معبر رفح مغلقا واستمرار معاناة أهالي غزة التي طال أمدها ولم يعد من المنطق تحملها.
ومن هنا فإن حماس قد تلجأ إذا استمر الوضع على ما هو عليه إلى الانفجار بوجه الاحتلال ،مع الحرص الشديد على إبقاء علاقات ودية وتواصل دائم مع مصر،حتى ولو سمعت من الأخيرة ما يغضب ويستفز،الله وحده يعلم إلى أين ستصل الأمور ...الأسابيع والشهور المقبلة ستحمل في ثناياها تغيرات مفصلية...والله تعالى أعلم!
-انتهى نص المقال-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق