الجمعة، 6 فبراير 2009

صناعة الزعماء: عين على فلسطين ....بقلم :د .عبد الستار قاسم

هناك صناعات كثيرة في العالم تدر الأرباح وتوفر الإمكانيات المتعددة الأغراض. تتم مناقشة مختلف الصناعات على صعد مختلفة مثل الخطط التنموية والدراسات الأكاديمية والرؤى الاستراتيجية. لكنه يندر أن يقرأ المرء مادة علمية حول صناعة الزعماء والتي من الممكن أن تكون مربحة جداً على مختلف المستويات. هناك إغفال واسع لهذه المسألة على المستوى العالمي بسبب رغبات الدول الصانعة والزعماء المصنوعين. إنها صناعة سرية للغاية ولا يُسمح لها بأن تكون بين دفات الكتب أو على صفحات الجرائد.يملك الزعيم أو القائد أو الحاكم الإمكانيات المادية ويسيطر على المؤسسات ولديه الطواقم الفنية والعلمية والإدارية المختلفة، ولديه القدرة على اتخاذ القرار والتنفيذ. فإذا رأت دولة أو جهة ما أن لها مصلحة في دولة أخرى أو بقعة جغرافية أو شعب آخر، فإنه من الممكن لها أن تتطلع نحو وجود زعيم يتجاوب معها نحو تلبية مصالحها. دول كثيرة لا ترغب بترك الأمور تبعاً للحظ فتعمل على إتباع سياسات تصل بعميل لها إلى الزعامة أو إلى سدة الحكم. عندها تضمن هذه الدولة أن مصالحها تتحقق من خلال سياسات تشارك مباشرة هي في صنعها.اختصت الحركة الماسونية منذ حوالي قرنين من الزمن بصناعة الزعماء. ببساطة، رأت الحركة أن أفضل ضمان لأن تكون سياسة الدولة (أي دولة) لصالح اليهود أو، على أقل تقدير، غير معادية لهم هي تلك التي تأتي بالزعماء المصنوعين من قبلها. إنهم يبدون زعماء حقيقيين، لكنهم في الحقيقة لا يملكون من الأمر شيئاً ويلتزمون بما تلزمهم به الحركة الماسونية. والمسألة لا تكلف الشيء الكثير. تنحصر التكاليف ببعض المال ونفر من النساء. لكن الأرباح هائلة وعبارة عن نبع فياض. إنها سياسة شراء وتوريط، سهلة التنفيذ وعالية الجودة وغزيرة الإنتاج. ولهذا ركزت الحركة الماسونية على أصحاب النفوذ في المجتمعات من سياسيين وأثرياء وكتاب ومفكرين ورجال دين لكي تختار من بينهم فرسانها. وقد نجحت إلى درجة أن عدداً من قادة الدول، وبالذات الدول العربية، أعضاء في الحركة الماسونية.انتهجت دول عظمى مثل الولايات المتحدة هذه السياسة لما فيها من فوائد عديدة على رأسها تطويع بلدان لمصالحها السياسية والفكرية والاقتصادية والثقافية. استعملت أمريكا أساليب سرية من خلال أجهزة المخابرات، وأخرى علنية من خلال سياسة العصا والجزرة. إنها تنجح في دول عديدة وبالذات في الوطن العربي. وركزت أيضاً على المثقفين وأساتذة الجامعات لكي يكون لسطوتها بعداً جماهيرياً وسياجاً فكرياً وذلك من خلال المنظمات غير الحكومية التي تعمل بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة. إنها تستغل قضايا نبيلة من أجل صناعة أتباع يحتلون بفضل أموالها مراكز متقدمة في الحركة الفكرية المحلية وفي وسائل الإعلام. من بين هؤلاء تتم تغذية النظام السياسي المحلي بالقادة والزعماء. عمل الإسرائيليون على مدى السنوات على صناعة زعماء عرب وفلسطينيين من أجل الاطمئنان إلى التعاون الإيجابي المباشر وغير المباشر المتمثل بملاحقة الراغبين في المقاومة أو عزل الكيان الصهيوني عن المحيط العربي. وقد نجحوا إلى حد كبير بخاصة أنهم وجدوا الكثير من الدعم الماسوني والأمريكي. لقد جندوا قادة دول وزعماء وجواسيس وصلوا إلى مراتب عليا في الدول العربية. قصة كوهين معروفة، وكذلك الجاسوس الإسرائيلي الذي أقام حفلاً فنياً لطياري مصر عشية حرب حزيران 1967، والجاسوس عدنان ياسين الذي وضع أجهزة التنصت الإسرائيلية في غرف نوم قادة فلسطين. الأمثلة كثيرة في مختلف البلدان العربية.تعرضت أنا لمحاولة إسرائيلية لتزعيمي. كنت معتقلاً في سجن الفارعة بالقرب من نابلس عندما استدعاني مدير مخابرات المعتقل. سألني المدير عما هو أفضل أن يخرج المرء من المعتقل ولا ينتظره على الباب إلا نفر قليل من الناس، أم أن يخرج وبانتظاره عشرون كاميرا تلفزيون. قلت له إن الكاميرات أكثر بهجة. فقال لي إنه على استعداد بأن يأتي بشبكات التلفاز إذا قررت أن أكون زعيماً. طلبت منه الاستفاضة، فأجاب بأنه سيأتي بوسائل الإعلام وستغطي أعمالي وتحركاتي داخل السجن. وبعد التسريح سيعمل على تغطية أعمالي إعلامياً لكي أصبح نجماً فلسطينياً خلال فترة قصيرة. عندها، حسب قوله، سيؤمن بك شعبك على أنك زعيم وسيهتفون باسمك.سألته عن المقابل. قال إنه لا يسعى إلى تجنيد جواسيس لأن لديه وفرة. أضاف بأنه فقط يريد مني أن أُطلق التصريحات وأتحدث إلى وسائل الإعلام وأغادر إلى بيتي لأخلد للنوم. قال إن المطلوب أن تتكلم كثيراً وبشعارات نارية دون أن تقوم بأي شيء عملياً. طبعاً رفضت.واضح أنه يريد صناعة زعامة لا تقوى على صنع الثقة بينها وبين الجماهير. إنه لا يبحث عن مخبرين وجواسيس وإنما عن عملاء من ذوي القرون الحيوانية الذين ينفذون السياسات الكبيرة. إذا اخترق القيادة وأفقد الجماهير الثقة فإنه سيكون قد حطم أحد أركان الصمود الأساسية للشعب الفلسطيني.تعرض الشعب الفلسطيني لمثل هذه الألاعيب الصهيونية وما يزال يتعرض. فجأة يرى الإنسان الفلسطيني أن شخصاً ما قد تقدم الصفوف وبدأ يظهر على مختلف وسائل الإعلام بتصريحات نارية وأفكار ثورية. كيف يحقق شخص فجأة مثل هذا الصعود؟ تقف دوائر المخابرات بالتأكيد وراءه، ولا شك أنها تملك الوسائل والأساليب المتعددة لإيصال المعنيين به إلى ما يريدون. هناك من يكدون ويتعبون ويضحون ولا يجدون أي تغطية إعلامية، بينما هناك من يستلقون على الفراش الوثير ويجدون كل الدعم بما في ذلك التأييد الشعبي الناجم عن الإعلام. فمثلا، هناك معتقلون مناضلون مثل الشيخ حسن يوسف وعبد الرحيم ملوح لا يجدون إعلامياً ينقل نشاطاتهم داخل السجون، بينما هناك من يشكل سعاله في السجن مادة إعلامية. وعلى ذلك نقيس.أصدر شارون في الآونة الأخيرة أوامره لمعاونيه بعدم امتداح شخص فلسطيني معين حتى لا يؤثر ذلك على قدرة "إسرائيل" في دفع عملائها نحو الزعامة الفلسطينية. إنه يريد الهدوء حتى يكون قادراً على توفير الأجواء المناسبة للشخص الذي يريدون تنصيبه بالخفاء زعيماً لفلسطين. هنا يستعمل الصهاينة المال والإعلام والمعاداة. إنهم يقدمون المال سراً لزبائنهم مباشرة أو عبر أطراف أخرى مثل وكالة المخابرات المركزية، ويوفرون الدعم الإعلامي من أجل الإبراز، ومن ثم يكيلون لهم تهم الإرهاب والمعاداة لإسرائيل من أجل إكسابهم الوجه الوطني. يجب ألا يُفهم أن زعامة فلسطين كلها تصنع بهذه الطريقة. هناك أشخاص محترمون وأصحاب تاريخ نضال وأخلاقي رفيع. لكن الإسرائيليين يعملون دائماً على خلط الغث بالسمين، والطيب بالشرير. لا شك بأنهم أثروا في صناعة الزعماء وما زالوا يؤثرون، وهم ينشطون الآن بهذا الاتجاه.وعليه يستطيع أن يتجاوز الشعب الفلسطيني المخططات الصهيونية بالاستشعار الذي اكتسبه خبرة عبر الزمن. إنه لا يجوز الاطمئنان إلى أصناف من الناس منهم: من أثرى فجأة، من تتناوله وسائل الإعلام بكثافة، من يملك مسلحين خاصين على الساحة، من ثبت فساده وتعامله مع الإسرائيليين والأمريكيين. ولا شك بأن النظر في التاريخ الأخلاقي للمرء يساهم كثيراً في التحصين الذاتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق