وقد نال الاقتراح موافقة 53 نائباً، من بينهم ثلاثة وزراء من حزب «العمل»، ما يعني حصول إجماع إسرائيلي يشمل اليمين المتطرف واليمين وقسماً من الوسط و«اليسار» على أطروحة «الدولة البديلة» التي كانت تعبّر، لأشهر خلت، عن تيار هامشي في السياسة الإسرائيلية، تتزعمه أقلية «الاتحاد الوطني الإسرائيلي» القويّ الصلة بالمحافظين الجدد في واشنطن وبالجمهوريين في الكونغرس الأميركي. ولكنها الآن تتظهّر كسياسة إجماع، تحت تأثير خمسة عوامل هي:
1 ـ اتجاه إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى انتهاج سياسة تسويات في المنطقة. وهي سياسة سوف تضغط على تل أبيب نحو الموافقة على صيغة حل للقضية الفلسطينية من جهة، وتضع إدارة أوباما، من جهة أخرى، تحت ضغط اليمين الإسرائيلي الساعي إلى انتهاز الفرصة واقتناص الحاجة الأميركية إلى التهدئة مع إيران، للحصول على الحد الأقصى من المطالب الإسرائيلية للحل على المسار الفلسطيني،
2 ـ تحوّل مصر والسعودية ـ بسبب ذعرهما من أفول مكانتهما الإقليمية لمصلحة التمدد الإيراني والتركي ـ من أولوية حل القضية الفلسطينية إلى أولوية المواجهة مع إيران. وهو ما يضع الثقل الرسمي العربي، موضوعياً، إلى جانب إسرائيل في رؤيتها لضرورة الحسم مع الإيرانيين وحتميته، ولجم السياسات الشرقية المستجدة لأنقرة. وتبدو القاهرة خصوصاً أقرب إلى تل أبيب منها إلى واشنطن، في قراءتها للمشهد الإقليمي وأولوياته.
3 ـ اتجاه الانقسام الفلسطيني نحو التجذّر السياسي ـ الجغرافي بين مناطق الضفة التي تحكمها سلطة مقبولة إسرائيلياً وعربياً ودولياً، ولكنها ضعيفة للغاية ومستعدة للبحث عن مخرج بأي ثمن لوضعها القلق، وبين غزة المدمرة المحاصرة التي تحكمها «حماس» المنبوذة والمتهمة بـ «الإرهاب». وقد قرأ الإسرائيليون جيداً كيف شقّ ذلك الانقسام صفوف الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، حين ظهر خلال العدوان على غزة في شتاء العام الماضي، أن المزاج السياسي الجماهيري في الضفة هو في أدنى حالات التضامن مع غزة المقاومة.
وتُظهر استطلاعات الرأي منحىً خطيراً للغاية في هذا السياق، يتجلى في انخفاض نسبة مؤيدي «حماس» في الضفة إلى نحو 24 في المئة فقط، بينما يتركز مؤيدوها في غزة. وهذا يعني تكريس انقسام جغراسياسي ـ يدعمه العرب المعتدلون والأميركيون والأوروبيون ـ ويقود واقعياً إلى تفكيك مطلب الدولة الفلسطينية الموحدة المستقلة. وهو ما تجد فيه إسرائيل فرصة ذهبية لعزل غزة و«حماس»، وتأزيم السلطة باتجاه الانفراط والاندماج في دولة أردنية يجري تغيير هويّتها إلى فلسطينية، وتمثّل ملاذاً للمشروع الفلسطيني واللاجئين الفلسطينيين،
4 ـ الوضع الإقليمي القلق للدولة الأردنية. فبينما كانت عمّان مرتبكة وعاجزة ومشوّشة الرؤية، تتابعت التطورات الدولية والإقليمية المتسارعة في نهاية 2008 ومطلع 2009 لكي تضع الأردن خارج المعادلة العربية. فقد وجدت عمّان ركنَي الاعتدال العربي يتركانها: مصر إلى تحالف غير مشروط مع إسرائيل، والسعودية إلى مصالحة ـ ولو بطيئة ـ مع سوريا.
وبينما لا تستطيع الدولة الأردنية أن تنقلب ـ بسبب ثقل العلاقة مع الشأن الفلسطيني ـ على سياسة أولوية الحل على المسار الفلسطيني لمصلحة التصعيد مع إيران، فإنها لم تستطع، بسبب فقدان الخيال السياسي وتركيبة الحكم والارتباطات التقليدية مع الغرب ـ أن تقفز إلى المعسكر الآخر. وهو وضع حاولت الدبلوماسية الأردنية الخروج منه بالإعراب عن استعدادها لتقديم تنازل جوهري للإدارة الأميركية، يتمثل في التوطين السياسي للاجئين الفلسطينيين في الأردن، والاستعداد للقيام بدور وكيل التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي والإسلامي. وبالنتيجة، أضعفت هذه التنازلات الأردنية المسبّقة عمّان، وكشفتها أمام اليمين الإسرائيلي.
5 ـ اتجاه السياسة السورية نحو أولويّة ترتيب وضع سوريا الإقليمي، وتأكيد تحالفاتها ومصالحها الاستراتيجية وحمايتها، بينما لا توجد لديها مصلحة مباشرة أو أدوات سياسية في الضفة الغربية، وينحصر تأثيرها في الساحة الفلسطينية في حدود غزة البعيدة جغرافياً عن الشام، والواقعة تحت قبضة مصر، التي لا تريد دوراً لسوريا في ترتيب الوضع الفلسطيني. وهو ما يسمح لتل أبيب بتجاهل العامل السوري في اتجاهها نحو فرض حل صهيوني على السلطة الفلسطينية والنظام الأردني.
إقامة الدولة الفلسطينية في الأردن، لا تتناقض أيضاً مع مصالح نخب السلطة الذين يجدون أنفسهم أسرى وقلقين على مستقبلهم في كانتونات الضفة، بينما ينتظرهم في عمان مستقبل سياسي مضمون بالحصول على موقع الشريك مع القصر الهاشمي في دولة ستجمع، واقعياً، شتات معظم الفلسطينيين، وتمثّل عودة إلى وضع ما قبل 1967 المستقر في صيغة المملكة الأردنية الهاشمية. صحيح أنها ليست بحدود 1967، ولكنها ستضمن انقلاب الوضع الذي تمردت عليه «فتح» منذ 1965، أي سيطرة الهوية والنخب الأردنيّين على الدولة. سيكون الوضع الآن معكوساً لمصلحة الهوية والنخب الفلسطينيّين. هذه الدولة ستتيح للكمبرادور الفلسطيني كامل حصته، وأُفقاً غير متاح في الضفة أو غزة أو أي مكان آخر، لمراكمة الثروات والمصالح وتظهير القوة الإقليمية والدولية للرأسمالية الفلسطينية.
وفيما يتصل بموقف عمان، فإن مبادرتها السلمية الملحاحة، ليست بعيدة واقعياً عن أطروحة الدولة البديلة. علينا أن نلاحظ هنا أن فلسطينيي الأردن ـ أو معظمهم ـ مواطنون أردنيون بالفعل. وما ينقصهم هو الحصول على كوتا سياسية في الدولة. وهي كوتا ستكون مطروحة على جدول الأعمال عندما تحدث التسوية النهائية ضمن التصوّر الأردني، أي دولة فلسطينية في كانتونات الضفة وغزة، في مقابل التوطين لفلسطينيي الأردن. لكن هذه الدولة الفلسطينية الموعودة لن تكون قابلة للحياة من دون نوع من العلاقة الفدرالية أو الكونفدرالية مع شرقيّ النهر. وعندما يكون نصف الدولة الأردنية في أيدي فلسطينيين مرتبطين مع الضفة، فإن اتجاه الأحداث سيكون واضحاً.
الأسماء والأعلام والرموز الدولتية كلها يمكن إيجاد حلول لها عند شركة «ساتشي آند ساتشي» للدعاية والإعلان، أما تفاصيل الحدود والقدس... فهي في كل الحالات موضع تفاوض. الجوهري في النهاية هو تسوية الوضع الفلسطيني واقعياً في إطار دولة قائمة وناجحة، توطن غالبية اللاجئين، هي دولة الأردن. هنا، تتقاطع المواقف الفلسطينية والأردنية ـ الرسمية ـ والإسرائيلية. وعلى هذا، فنحن لا نتوقع ردود أفعال قاطعة من رام الله وعمان تجاه تل أبيب، إلا تحت الضغوط الداخلية. تبقى هنالك أربع مشكلات تعرقل هذا الحل، سواء بصيغته الإسرائيلية الفجة أو بصيغته الأردنية ـ الفلسطينية المحلاة. وهي:
2 ـ سوف يصطدم نخب السلطة الفلسطينية بنخب فلسطينيي الأردن الأكثر تطوراً وتجذّراً في البنية الاقتصادية والسياسية الأردنية، وكذلك بالمعارضة الإسلامية، حيث يُعدّ فلسطينيو الأردن من أقوى مؤيدي «حماس». وهكذا، سيكون هناك صراعات ـ نحن نعرف مدى عنفها ـ بين الأطراف الفلسطينيّين في الدولة الجديدة. نعني أن التناقضات الفلسطينية الأساسية بين الرأسمالية الفلسطينية التقليدية والليبرالية الدولية ـ ومركزها الأردن ـ وأبوات السلطة وأجهزتهم وفئات البزنس المرتبطة بهم، والحركة الإسلامية، سوف تجد في الأردن مدى واسعاً للانفجار. وسيجري تضخيم الصراعات وتصعيدها، وستلجأ قوى فلسطينية إسلامية، وأخرى في الترتيبات الجديدة، إلى شنّ عمليات مقاومة ضد إسرائيل، أقله لتحسين شروط تفاوضها الداخلي.
3 ـ من غير الممكن إعادة تركيب الدولة الأردنية لاستيعاب المشروع الفلسطيني أو حتى فلسطينيي الأردن سياسياً، والحفاظ، في الوقت نفسه على صيغة الحكم المطلق. فالمحاصصة سوف تفرض، في حال نجاحها، نوعاً من اللبننة أو العرقنة. وفي هذه الحالة، هل يمكن تصوّر أن يقوم القصر بالمشاركة في ترتيبات المحاصصة، نيابةً عن النخب الأردنيين؟ هؤلاء الأخيرون سيطالبون، عاجلاً أم آجلاً، بحصتهم، مما يضع النظام الحالي ـ ووجوده هو أساس الحل المقترح ـ في موضع التساؤل.
4 ـ المشاريع المطروحة في صيغها المختلفة، تتجاهل المقاومة القائمة والمنتظرة من جانب التكوين الوطني الأردني الصلب، الذي لم يعد قابلاً للتفكيك أو الإذابة. ومن المفارقات أن هذا التكوين، المتكوّن منذ نهايات المرحلة العثمانية، قد تبلور وتجذّر في حراك اجتماعي أخذ مداه في ظل السياسات الرسمية منذ مطلع السبعينيات. وهو لا يزال يفرض شروطه، ويمتنع عن الاستجابة لخطط «التحديث» حتى بعد عقد كامل من اللبرلة الاقتصادية والمساعي الحثيثة لتحويل المواطنين إلى سكان، والدولة إلى شركة، والقيم الوطنية إلى قيم البزنس، في صيغة تلغي الهويات السياسية، أردنية أو فلسطينية، وتعتمد هوية ليبرالية كوزموبولوتية. الآن، سوف يظهر، أكثر من أي وقت مضى، أن تلك الخطط والمساعي قد فشلت كلياً. فشعار المرحلة المطروح شعبياً الآن هو «فلسطين للفلسطينيين والأردن للأردنيين». ذلك يعني أن الأحداث والتطورات قد تجاوزت اتفاقيات أوسلو ومعاهدة وادي عربة وكل ما رافقهما وتبعهما من سياسات سلام عابر حقاً. ونحن لا نعود الآن إلى 1993 ولا إلى 1967، بل إلى 1948.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق