لماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ تشير معلومات دبلوماسية متقاطعة إلى أنه بعد نحو 20 شهراً على التورط الغربي في حقول القتل السورية، أجرت واشنطن مراجعة جذرية لخياراتها هناك. وانتهت إلى أن امامها مروحة ضيقة من الاحتمالات. أولها أن تكرر في مواجهة بشار الأسد، تجربة دعمها المقاومة الأفغانية في مواجهة ما عرف باسم «نظام بابراك كارمل» في كابول. أي عملياً إقامة نوع من «لويا جيرغا» مقاومة، كتلك التي أنشأها «المجاهدون الأفغان»، بموازين دقيقة بين الباشتون والطاجيك والشيعة، والتي ضمت في خلاصتها 13 فصيلاً مقاوماً في إطار هيئة تنسيقية جماعية، حصرت فيها المساعدة العسكرية والمالية الأميركية، فانتصرت على الجيش الأحمر. غير أن هذا النموذج فشل فوراً في سوريا. إذ تأكد بشكل نهائي أن أجنحة «الجيش السوري الحر» الثلاثة غير قابلة للتنسيق في ما بينها، فكيف بالآخرين. رياض الأسعد رغم إبعاده من تركيا يرهص بنفسه ديغول سوريا. العميد مصطفى الشيخ «فاتح على حسابه» معركة في حلب، أدت إلى هزيمة عسكرية للمعارضة. فيما العميد «الإخواني» عبد العزيز سلامه مكتف بالقنص من شمال لبنان على شريط ضيق في الجنوب السوري. هكذا بدا لواشنطن أن القوى الوحيدة القابلة لتجربة النموذج الأفغاني في سوريا هم «الجهاديون». فهم تكوينياً منظّمون على أساس «فدرالية جهادية»، كما أن قادتهم ليسوا من الطامحين إلى ألقاب الفخامة والسيادة ورئاسة مجلس الثورة إما لأنهم غير سوريين اصلاً، وإما لأن أحجامهم متواضعة. غير أن فكرة استنساخ التجربة الأفغانية لم تلبث أن أطلقت الإنذارات الحمراء في كل الغرب، فسقطت الفكرة فوراً.
النموذج الثاني كان تجربة «المقاومة اللبنانية» في الثمانينيات. إذ وُضع على طاولة واشنطن اقتراح بإيجاد بشير الجميل سوري، يعمل على «توحيد البندقية السورية المقاومة» بالقوة، ومن ثم يتم اعتماده في لانغلي ممثلاً وحيداً وشرعياً للثورة. وقيل إن وسام الحسن كان من العاملين على هذه الفكرة. وما نقله عنه دايفيد إنياسيوس في واشنطن بوست كان واضحاً لهذه الناحية، مع الكلام عن «تصفية الجهاديين فوراً». حتى أنه قيل ان الحسن كان لديه مرشح واضح لهذا الدور، هو مناف طلاس. أخرجه عبر بيروت وقدّمه للمشغّلين حاضراً ناضراً. غير أن الغرب توجّس من طبيعة البلاي بوي السوري، كما من تركة عائلته الثقيلة. فيما توجس الخليجيون من كيفية المواءمة بين دعمهم للجهاديين الإسلاميين من جهة، وبين تواطؤهم لتنصيب صهر ثروة آل العجة عليهم. ما قد ينذر بانتفاضة مسخ «قاعدي» جديد، يخرج من خيبة الثوار وحطبها... فسقط النموذج البشيري ايضاً.
هكذا لم يبق أمام الغرب إلا نظرية الخروج الهادئ. وبالتالي ترك الأزمة في حال استنزاف مزمن لكن مضبوط الجوانب، بحيث يفعل فعله في اهتراء النظام، من دون أي خطر بالتشظّي إلى ما حوله من براميل بارود. أي شيء ما من خيار التعامل مع صدام حسين بعد حرب الخليج الأولى سنة 1991. إلا أن خياراً كهذا يقتضي تنفيذه فرض ستار دخاني كثيف للتضليل والانسحاب في ظله. وهو ما يجري تنفيذه في الدوحة اليوم. وهو بالذات ما أطلق موجة الرعب والذعر في قلب المعارضة السورية، بجناحيها الشامي والبيروتي. ففي حساب المعارضة أن نموذج صدام يعني حتماً أن حلبجة الثانية قريبة، وأنها قد تباد كلياً قبل أن تسنح لها فرصة ثانية، كما حصل مع بغداد بعد 12 عاماً. فكيف إذا كانت البوادر قد بدأت مع اغتيال الحسن، كما تعتقد... لسبب غريب يبدو أن المعارضين لا يصدقون أوباما وهو يؤكد في خطاب نصره، "أن الأفضل آت لاحقا".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق