وصلت البذاءة السياسية بفريق 14 آذار إلى أوجها في أثناء الحرب الإسرائيليّة على غزة (تصرّ بعض الأقنية السعودية على تسميتها بـ«العمليّة العسكريّة»). أصوات قادة هذا الفريق وصيحاتهم وصلت إلى درجة العويل والصراخ المُدوّي بعد إطلاق بضعة صواريخ صدئة من جنوب لبنان على إسرائيل. متدرّب في مركز فارس خشان للإعلام الرصين دعا في نشرة «المستقبل السلفي» إلى الرأفة بجيش الاحتلال لأن رئيس الأركان الإسرائيلي ينحدر من عائلة عانت في المحرقة. ومن الأكيد أن إطلاق الصواريخ الصدئة من جنوب لبنان (وبوركت الأيدي التي أطلقت هذه الصواريخ، وهي رمزيّة، رغم كلام رئيس الجمهورية أن لبنان «ليس منصّة لإطلاق الصورايخ»، وكان أحرى أن يطلقَ كلامه في وجه إسرائيل التي جعلت من لبنان ومحيطه منصّات لصواريخها هي منذ إنشاء كيانها الغاصب) لاقت من الاستنكار في لبنان أكثر بكثير من أطنان الصواريخ والقنابل المنهمرة على غزة. وليس طريفاً إطلاقاً أن يتلقّى الشعب اللبناني والفلسطيني بصورة خاصة عظات عن كيفيّة إدارة (أو إنهاء) الصراع مع إسرائيل من توفيق الهندي وجورج عدوان. كان ينقص أن ينضم أبو أرز إلى الجوقة ليحدّد لنا مسار حياد لبنان الذي يريده غسان تويني لنا. والذين كانوا في إعلام آل سعود وإعلام آل الحريري يعيّرون حماس لالتزامها بالهدنة مع إسرائيل عادوا اليوم ليصدحوا مع إسرائيل بأن حماس هي التي خرقت وقف النار مع الكيان الغاصب. الانسجام السياسي ليس من شيَمهم.
ومن المُقزّز، بمقياس النفاق السياسي، أن ترتفع أصوات نوّاب في حزب وليد جنبلاط بصورة خاصة، مستنكرة دور الجبهة الشعبيّة ـ القيادة العامة، مع أن الجبهة المذكورة أنقذت قائد الحزب وجماعته في أكثر من مفصل في الحرب الأهليّة، وخصوصاً في خضمّ حربه الطائفيّة. وتتعرّض الجبهة المذكورة لجحود تستحقّه لانخراطها ماضياً في حروب كان يجب أن تبقى في منأى عنها، لكن إرادة النظام السوري لا تُردّ عند أحمد جبريل. وكان زعيم الحزب المُظفّر يشيد في الماضي بإنجازات أحمد جبريل بمناسبة وبغير مناسبة، لكن كان ذلك في دورة من دورات الزعيم الذي عاد من واشنطن أخيراً بانطباع أن كوندوليزا رايس «مُحِبَّة»، مع أن الأخيرة لم تعبّر عن تلك المحبّة نحو أطفال غزة عندما صرّحت بأنه من الصعب على إسرائيل عدم قتل الأطفال في غزة بسبب «الكثافة السكانيّة». أي أن المعطيات الديموغرافيّة هي التي قتلت الأطفال والنساء في فلسطين.
لم يعد التذاكي نافعاً. التطابق، لا التشابه (وهو للرمال كما قال محمود درويش)، ظهر للعيان بين كل سياسات إسرائيل الخارجيّة وفريق رفيق الحريري في لبنان. القرار 1559 كان قراراً أميركياً ـــ فرنسيّاً في الظاهر، لكنه كان أيضاً من إعداد رفيق الحريري وسفير إسرائيل في الأمم المتحدة، كل على حدة من دون أن يكون هناك لقاء فعلي بين الاثنيْن اللذَيْن تشاركا في الرعاية الأميركيّة للقرار. في زمن حرب غزة لم يعد ينفع التذاكي والمداراة والتكاذب والرياء، الذي يتقنه كل أطراف النزاع في لبنان، وفي الضفّتيْن، دون استثناء. يخوّنون ويتهمون ثم يقبّلون على الوجنتيْن، وعلى القطيع أن يمشي من غير سؤال ومن دون اعتراض، وهو يمشي في الغالب.
في الأسبوع نفسه يستقبل رئيس جمهورية لبنان الممتازة «المجلس العالمي» لثورة الأرز، وهو تنظيم صهيوني أميركي يضم، في مَن يضم، حلفاء أنطوان لحد من أمثال شربل بركات وغيره. وفي الأسبوع ذاته يقول ميشال سليمان «لا أحد» يزايد على لبنان في مقاومة إسرائيل. لم يحدِّد سليمان ما يعنيه بـ«اللا أحد» ولا ما يعنيه بـ«لبنان». إذا كان يغمز من قناة الشعب الفلسطيني، فليسمح لنا لأن «لا أحد» يستطيع أن يعطي دروساً لـ«الذي خلقا، من جزمة أفقا». أما عن لبنان، فلا. هناك من يستطيع براحة شديدة أن يزايد على لبنان. يستطيع أي شبل فلسطيني أو فتى في المقاومة في لبنان أن يزايد على جيش لبنان وعلى حكوماته المتعاقبة ليس فقط لتخاذلهم في مهمة الدفاع عن الوطن بوجه إسرائيل، بل لضلوعهم في مؤامرات ضد القضيّة الفلسطينيّة. المزايدة هنا واردة وواجبة. لا تستطيع الدولة في لبنان أو الجيش التمتّع برصيد أو إنجاز المقاومة الشعبيّة ضد إسرائيل وخصوصاً أن حكومة لبنان الحالية تتنصّل، بأمر السنيورة، من المقاومة. هذا لا يعني أن فريق السنيورة لا يستحق ـ إن أراد ـ أن يفخر بإهراق الدموع وبضيافة الشاي.
لكن قبل تحليل القرار 1860، من الضروري تحليل السياق. يجب، بداية، توبيخ وزير الخارجيّة اللبناني الذي، لسبب من الأسباب، يظهر ضعيفاً دائماً أمام كوندوليزا رايس. الوزير المعني يُجمع الجميع أنه «آدمي» وخلوق، لكن المرحلة، وخصوصاً في وزارة خارجيّة لبنان، تتطلّب بأساً وحزماً وشدةً لا تتوافر عند فوزي صلّوخ. لقد ظهر في أيامه الأولى أمام كوندوليزا رايس فيما كانت تصف زميلاً له بالإرهاب، وظلّ هو صامتاً. وهذه المرّة، أو السقطة، الثانية، كانت قاضية. لم يصدر عن الوزير أي موقف يُذكر في مجلس الأمن، ولا يشرّفه في شيء أن رايس لم تستثنهِ كما استثنت الوزير القطري، في إشارة إلى أنه ماشى القافلة السعودية في نيويورك من دون اعتراض. ويأتي الوزير مؤيّداً للقرار الجائر فيما كانت حركة أمل، التي أتت به وزيراً، تنتقد القرار. ثم يحاول الوزير صلّوخ أن يتلافى الإحراج بالقول إن القرار «مهم». مهم؟ ماذا يعني هذا الكلام في السياسة الدوليّة أو في مجلس الأمن؟ هل القرار بأهميّة القرار 425 الذي ضربت إسرائيل به عرض الحائط، مع أن غسان تويني لا يزال يلهج بحمده وكأن القرار أجبر إسرائيل على الانسحاب لا المقاومات اللبنانيّة المتعاقبة (وإن حاول كتبة آل الحريري هذه الأيام استنباط نظريّة جديدة مفادها أن إسرائيل انسحبت «أحادياً» من جنوب لبنان ومن غزة حبّاً بفعل الخير لا تحت وطأة المقاومة). كان على وزير لبنان الذي خرج من حرب تموز بدروس (وإن سهت عن بال السنيورة وشركاه في... الحكم) أن يقود جهراً الصوت المُعارض للنيات الأميركيّة، لا أن يصبح واحداً من فريق الطاعة العمياء الذي ترأسه سعود الفيصل، والذي يتحمّل مع إسرائيل شراكةً مسؤوليّة المجازر في غزة، وفي إطالة معاناة الشعب.
لكن التصويت على القرار كان ذا دلالات. الغياب الصيني والروسي الكلّي عن نصرة شعب فلسطين كان بليغاً، وخصوصاً أن سذاجة التحليل عند بثينة شعبان وعماد فوزي الشعيبي كانت تتحدّث عن تغيير جذري في العلاقات الدوليّة، وكانا على وشك تبشيرنا بانبعاث أندروبوف إيذاناً بعودة رسميّة للحرب الباردة. طبعاً، لروسيا والصين قضايا لن يترددا في الخلاف مع الولايات المتحدة عليها، لكن قضايانا ليست منها إطلاقاً. والقرار كان ضعيفاً وجائراً في سياقه، لأن الولايات المتحدة امتنعت عن التصويت لطمأنة إسرائيل وإخبار العالم بأنها لا تنوي الإصرار على تنفيذ القرار، وهذا يُفسّر أيضاً سبب عدم إدراج القرار تحت البند السابع. والبند السابع يُستخدم عند الضرورة لخدمة إسرائيل، لا لخدمة أعداء إسرائيل من العرب. وهذه الإشارة كانت معبّرة لتبعث إلى إسرائيل بتطمين حول موافقة الإدارة الأميركيّة على استمرار قتل الفلسطينيّين في غزة. وكانت رايس في موقع حرج: عليها إنقاذ فريقها في الأنظمة العربيّة الخانعة، من دون أن تزعج خاطر إسرائيل. فكان الامتناع عن التصويت هو الحلّ.
الأمر الآخر أن القرار المذكور يأتي في آخر حقبة بوش ومن المؤكد أن الرئيس الذي مَهَر إدارته بتبنٍّ كامل وغير مشروط لكل احتلالات إسرائيل وعدواناتها وغزواتها من دون أيّ تحفظ (وإن دعانا حازم صاغية ـ الذي أدت به الطاعة الوهّابية للعودة إلى نقد قطر بمجرّد ظهور بوادر توتّر بين قطر والسعوديّة ـ من اللوبي الصهيوني في واشنطن «لتشرّب» رؤية بوش) لن ينهي أيامه الأخيرة بقرار يدين إسرائيل، أو حتى أقل من الإدانة. والنصر الأساسي الذي حقّقته إسرائيل في هذا القرار هو في عكس ما حقّقته في القرار 242. نذكر أن إسرائيل اعتبرت عام 1967 إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيليّة ذريعة لشن الحرب على ثلاث دول. أما في القرار 1860، فقد حُرِم الشعب الفلسطيني حق شن حرب شعواء، وليس بصواريخ بدائيّة فقط، للدفاع عن النفس، مع أن كل غزة تقع تحت حصار الاحتلال الإسرائيلي. أي أن شعب فلسطين في غزة يحق له، في باب العلاقات الدوليّة، استخدام القوّة لفتح المعابر والأجواء والملاحة من أجل مصالحه الحيويّة. على العكس من ذلك، القرار لم يذكر حصار غزة (من قبل إسرائيل وذوي القربى) وإن تحدّث بعموميّة عن «الأزمة الإنسانية» في غزة دون ذكر الفاعل، وكأن الطبيعة وحدها سبّبت معاناة أهل القطاع.نيات إسرائيل تتضح في البند الأول الذي يطلب «وقفاً فورياً للنار وقابلاً للاستمرار (أو مستداماً)». وهذه الإضافة من بنات أفكار «الدبلوماسيّة» الإسرائيلية منذ 2006 عندما شنّت تل أبيب حربها على لبنان. أي أن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحق إطلاق النار متى شاءت (ولهذا هي لم تقبل بصيغة وقف النار في القرار 1701). والإصرار على وقف «للنار قابل للاستمرار» هو الصيغة الجديدة لمطالب إسرائيل لدى أية مواجهة مع العرب، لأنها ـ لاحظوا التواضع ـ تريد أن تتأكد من عدم تسليح الخصم ومن فرض حظر للسلاح على الخصم لأن جيشها اكتشف بعد إذلاله في حرب تموز أنه يفضّل مواجهة العزّل من الأعداء، ومجلس الأمن يجاريه ذلك. ولم يعترض أحد في حكومة لبنان الوهميّة على هذا الخلل الفاضح في القرار. ويتحدّث أقطاب وكتبة في الفريق الحاكم عن ضرورة مراقبة الحدود مع سوريا، لأن استراتجيّته للدفاع عن لبنان تعتمد فقط على عربات «الهامفي» المستعملة، بالإضافة إلى التعبير عن نيات سلميّة نحو المعتدي. وقرار وقف النار القابل للاستمرار يلي عبارة «وقف النار» ليبطل مفعولها، وليعطي المعتدي حق تقرير وقف إطلاق النار زمانيّاً وكيفيّة. والعدو الإسرائيلي لم يُقرّر بعد وقف إطلاق النار ضد لبنان.
وفي الوقت الذي يطالب فيه القرار بصورة غامضة ومبهمة بتوزيع بعض المساعدات الإنسانيّة في غزة، فإنه لم يطالب برفع الحصار عن غزة، أي أنه (أي القرار الذي وصفه فوزي صلّوخ بـ«المهم») ربط رفع الحصار على غزة بإخضاع غزة وفقاً للمشيئة الإسرائيلية ـ السعوديّة ـ المصريّة ـ الأردنيّة (وتبدو محاولة الملك الهاشمي تمييز نفسه مضحكة، إذ إنه مشارك أساسي في دعم العصابات الدحلانيّة وتدريبها، بالإضافة إلى اختلاق محاولة حماس تهريب للسلاح في الأردن، أي أن الملك الأردني حذّر من مؤامرة وهو مشارك فيها ضد شعب فلسطين). أي أن القرار يربط في بنوده بين المساعدة الإنسانيّة المؤقتة وتحقيق إسرائيل لشروطها في إخضاع الشعب الفلسطيني.ويتحدّث القرار عن إدانة «العنف والعدوان الموجهين ضد المدنيّين، وكل أعمال الإرهاب». هنا، يميّز القرار بين أصناف من العنف. فالعنف الإسرائيلي ضد مدنيّي (ومدنيّات) فلسطين ليس إرهاباً وإنما هو «عنف ضد المدنيّين»، خلافاً لعبارة الإرهاب في آخر البند. وإسرائيل (ومن ورائها أو أمامها أميركا) ترفض أي وصف لقتلها المدنيّين بـ«الإرهاب»، بينما نجحت في وصم ليس العنف الفلسطيني الذي يمكن أن يؤدّي إلى إيذاء ضحايا مدنيّين بالإرهاب، بل حتى العنف الفلسطيني ضد جيش العدو. وجارَتْها الولايات المتحدة في هذا التصنيف الذي تستفيد هي منه أيضاً، إذ إنها وصفت ضرب مقرّ المارينز في بيروت بـ«العمل الإرهابي»، كما أنها تعتبر كل مقاومة لاحتلالاتها في العراق وأفغانستان «إرهاباً». ولو كان الوفد العربي الذي ضم الوزير صلّوخ حريصاً على نقل وجهة النظر التي تخدم شعب فلسطين لأصرّ على صياغة الجملة في البند بطريقة لا تعتمد على تصنيف عنصري يخضع لسلّم من التراتبيّة في الأعراق والشعوب والأديان، وهذا في صلب العقيدة الصهيونيّة.لا تظهر الخطة الأميركيّة ـ الإسرائيليّة ـ السعوديّة ـ المصريّة بوضوح كما تظهر في البند السادس الذي يدعو إلى «منع التهريب غير الشرعي (ترجمت جريدة «السفير» الكلمة الأخيرة خطأً بـ«السرّي») للسلاح والذخيرة» إلى غزة. وانتقاء عبارة «غير الشرعي» واضحة في مراميها، إذ إنها تميّز بين تهريب أو تصدير شرعي وغير شرعي للسلاح والذخيرة. وهذا البند لا يرمي فقط إلى طمأنة إسرائيل بأنها يجب أن تواجه شعباً أعزل فقط عندما تغزو وتجتاح، بل إنها تعترف بضرورة العودة إلى تسليح («شرعي») لعصابات محمد دحلان التي طُردت شرّ طرد من غزة، وفرّ جنوده مذعورين بالسراويل الداخليّة، لكنهم يبلون بلاءً حسناً هذه الأيام في قمع التظاهرات في الضفة الغربيّة. وهذا ما عناه الرئيس المصري المُحنّط في إصراره على عودة عصابات محمد دحلان، الذي «توصل» إلى اتفاق رفح مع الإسرائيليّين وباعه على شاشات آل سعود كنصر محقّق. والطريف في الكلام عن عودة «القوات الشرعيّة» لمحمود عباس أنه لا يعني شيئاً «قانونيّاً» ـ هذا إذا جاز الحديث عن القانون تحت الاحتلال ـ بعد انتهاء ولاية عباس. لكن الإدارة الأميركيّة تعبّر هنا عن مكنونات عقيدتها لنشر الديموقراطيّة التي من المُرجّح أن تستمرّ في عهد أوباما. فعقيدة نشر الديموقراطيّة تعني أن حلفاء أميركا مُنتخبون (لا تدعم الولايات المتحدة حقوق النساء، إذ إنها تفضل سلالات الأمراء والملوك والقبائل والعشائر المتعدّدي الزوجات والقصور) ديموقراطياً ـ وإلى الأبد. أي أن محمود عباس تحوّل بعد انتهاء ولايته إلى رئيس مُنتخب ديموقراطياً عبر الرضى الأميركي. ويبدو أنه سيشغل منصب «الرئيس المُنتخب ديموقراطياً» مدى الحياة، على طريقة زعماء آخرين منتخبين ديموقراطيا مثل مبارك وعبد الله (الاثنيْن معاً) وغيرهما.
هكذا يكرّس عصر الإمبراطوريّة الأميركيّة طقوسه مرّة أخرى. أَلِفْناها نحن في لبنان عام 2006، عندما طالبت نايلة معوّض وبيار الجميّل بنزع سلاح المقاومة، فيما كانت صواريخ العدوّ وقنابله تنهمر على رؤوس الآمنين. كارلوس إده قام بالمهمّة أثناء عدوان غزة، فيما كُتب له في جريدة «النهار» التي تجهد في أن تعيد إليه زعامة تتملّص منه بعدما ورثها في الغربة، على حين غرّة. صرّح إدّه أن كل اللبنانيّين غير المرتبطين بإيران لا يكنّون أي عداء لإسرائيل، وأن حرباً جديدة بين لبنان وإسرائيل سيتحمّل حزب الله مسؤوليّتها. وكاتب في جريدة آل الحريري اعتبر قياساً أن حماس هددت الوجود الإسرائيلي، واعتبر أن إسرائيل تحارب من أجل استقلالها الثاني في غزة. ولكن من يقرأ ما يُكتب لكارلوس إده من كلام، أو ما يكتب زملاء أسعد حيدر (؟) والياس زهرا، الذي يعوّل على أفعال له عمرها أكثر من ثلاثين سنة لإسباغ شرعيّة على مواقف تتناقض مع تلك الأفعال، يعتبر أن درس غزة هو فرض القوات الدوليّة (غير اللبنانيّة) ضغطاً على من يقاوم إسرائيل من اللبنانيّين. أما عقاب صقر الخبير في حرب العصابات فقد دعا إلى مقاومة غانديّة لاحتلال إسرائيل. لم يكن هناك من يُخبر حضرته بأن الشعب الفلسطيني جرّب النضال السلمي بين عام 1948 ومنتصف الستينيات. ويعترف المؤرخ الإسرائيلي اليميني والعنصري، بيني مورس، في كتابه «ضحايا مؤمنون بأحقيّتهم» (وهو غير مترجم إلى العربيّة) بأن آلافاً من مدنيّي شعب فلسطين قُتلوا غيلةً على يد جيش الاحتلال لأنهم حاولوا أن يتفقّدوا بيّاراتهم ومنازلهم ومزارعهم. وهل هناك من يسأل صقر عن منافع الكفاح الغاندي الدبلوماسي لحكومة السنيورة منذ 2006 حتى الآن وإن كانت عادت على لبنان بشبر واحد من أراضيه المُحتلّة، مع أن نشرة آل الحريري تنشر أخباراً شبه أسبوعيّة عن قرب «إخلاء» إسرائيل للغجر أو للمزارع أو للاثنيْن معاً. وكان سمير جعجع قد عاد من زيارته إلى أميركا بتطمينات مماثلة. ومصباح الأحدب علّق على جرائم إسرائيل في غزة بالقول إنه غير مرتاح إلى أقوال حزب الله. هل يعني ذلك أنه كان مرتاحاً إلى أفعال إسرائيل وأقوالها؟ واستمات العائد (من أوستراليا) في الدفاع (المنزّه عن الهوى والغرض) عن أحمد أبو الغيط وسعود الفيصل.
الصهيونيّة تخلق جدليّة القضاء على نفسها: هي مثل العبد والسيّد في كتاب «فينومينولوجيا الروح» لهيغل. تستعين الصهيونيّة لفرض إرادتها على الشعب المحتلّ بوسائل القتل والتدمير، وهي بذلك تخلق جيوشاً من الأجيال المُصرّة على التخلّص من الصهيونيّة في أرض فلسطين. أي أن الصهيونيّة تخلق، دون أن تدري أو تكترث، الوسائل والأدوات التي ستؤدّي إلى تدميرها. ولأن تاريخ الصهيونيّة كان «من حرب إلى حرب» كما يقول عنوان عن تاريخ الصهيونيّة من تأليف صهيوني أميركي، فإن قدرة الصهيونيّة على الرؤية البعيدة المدى لم تتوافر يوماً لحركة اعتمدت على عقيدة عنصريّة استهانت واستخفّت بالخصم منذ ولادة الحركة. لكن نهاية الصهيونيّة كانت منذ البدء حتميّة لأنها تعتمد في ديمومتها على إفراط القوّة وحده، مثلها مثل نظام الفصل العنصري في أفريقيا الجنوبيّة.
لكن مظاهر التعبير الشعبي العربي، حتى بوجود القمع، ذات دلالات. نجح أنور السادات في فرض «رؤيته» على كل الأنظمة العربيّة (الخانعة والمُمانعة على حد سواء)، لكنه فشل في إقناع الرأي العام العربي المُتمَسِّك بلاءات الخرطوم بقبول إسرائيل. لكن «عضواً قياديّاً» في حركة اليسار «الديموقراطي» دعا إلى «المقاومة الثقافيّة» ضد إسرائيل في غزة. وبالشعر والأغاني تُحرّر الأوطان.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق