الأحد، 25 يناير 2009

من إقصاء «حماس» الى إقصاء عباس

من الواضح أن إسرائيل تواجه أربع نقاط ضعف أساسية في حرب غزّة، أولها الخسائر البشرية، الثانية الخسائر السياسية، الثالثة ضغوط الرأي العام الدولي، والرابعة الخسائر الاقتصادية إذا طالت المعركة، لأن الاقتصاد الإسرائيلي (وهو اقتصاد رفاهية) لا يستطيع تحمّل حرب طويلة.

يعتقد كثير من المراقبين أن الخسائر غير الظاهرة في حرب غزّة تختصر في سوق السلاح، لأن إسرائيل اليوم تحتلّ المرتبة الرابعة (قبل بريطانيا) في تصدير الأسلحة، وخسارة حرب غزّة ـ إذا حصلت ـ يمكن أن تنعكس سلباً على مبيعات السلاح الإسرائيلية.
وفي تقييم هيئة أركان الحرب الإسرائيلية لمدى فعّالية العملية العسكرية في تحقيق الأهداف التي حدّدت لها، تفيد التسريبات التي تجمّعت في الصحف الإسرائيلية، أن الأهداف في حدّها الأدنى هي الآتية:
< إسكات نيران الصواريخ.
< تحييد المستوطنات الإسرائيلية الجنوبية.
< إضعاف موقف «حماس» التنظيمي السياسي والعسكري.
< إقصاء «حماس» عن السلطة في القطاع.
< إقامة صيغة جديدة لميزان الردع.
< تقليل الدعم الشعبي لحركة «حماس».
الجنرال غابي أشكينازي رئيس الأركان عرض هذه الأهداف في الاجتماع الذي عقده مع ضبّاطه بعد أسبوعين من بدء المعركة، مشدّداً على ضرورة أن يتسلّم القطاع بعد الحرب مسؤولون فلسطينيون يتّصفون بالاعتدال والبراغماتية، ومؤكّداً أن استخدام القوّة في القطاع سيعزّز قدرات الجيش الإسرائيلي في مواجهة الارهاب.
في الاجتماع نفسه عرض كبار ضباط الاستخبارات (أمان) تصوّرهم لنتائج المعركة على الشكل الآتي:
ـ إن تفكّك السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وانهيارها وارد جدّاً.
ـ إن انهيار السلطة يمكن أن يقود الى قيام نظام إسلامي في الأراضي المحتلّة تقوده «حماس».
ـ في حال حدوث هجمات انتحارية (استشهادية)، يمكن أن يكون عدد الضحايا الإسرائيليين المدنيين كبيراً.
ـ التوصّل الى اتفاق شامل بين «فتح» و«حماس» ضئيل جدّاً.
ـ تدهور أوضاع الرئيس الفلسطيني يمكن أن يحفّز إسرائيل على التدخّل العسكري في الضفّة لتعزيز مواقعه، لأن إسرائيل لا تجد أفضل منه في الظروف الراهنة.
ـ القوّات العسكرية الإسرائيلية تحقّق تقدّماً في غزّة ولا مبرّر لوقف العمليات الدائرة.
مراجعة هذه العناوين تسمح بالقول إن سقف الخيارات الإسرائيلية يبدأ بإقصاء «حماس» عن السلطة، لكنه لا يستبعد إقصاء محمود عباس والبحث عن بديل (الدكتور مصطفى البرغوثي على الأرجح)، إذا تعذّر إنقاذ رئيس السلطة الفلسطينية. وسقف الخيارات الإسرائيلية محكوم، بطبيعة الحال، بالمسار الأميركي والمسار الأوروبي، ومسار الدول العربية المتصالحة مع إسرائيل. ومن الواضح أن المسار الشرق أوسطي يتمحور حول توجّهين: التوجّه المصري ـ الفلسطيني والتوجّه السوري ـ التركي، وأن الاشراف على معبر رفح ـ إذا فتح ـ سوف يكون مصرياً ـ أوروبياً ـ فلسطينياً، في الوقت الذي تصرّ إسرائيل على فرض الرقابة على المنطقة العازلة بين خط الحدود وبقيّة أراضي غزّة.
يبقى أن قراءة الصحف الإسرائيلية في الأسبوع الفائت، تكشف عن خلافات داخل المجلس الوزاري الأمني ـ السياسي المصغّر حول توقيت الخروج من غزّة، على خلفية أنه كلّما تورّط الجيش الإسرائيلي في عمق الأحياء السكنية، كلّما تعرّض لاستنزاف عسكري وسياسي لا يقوى على تحمّله، ومع أن وزير الجيش وجّه قوّاته للاستعداد لمواجهة طويلة النفس، فإن هناك داخل مجلس الوزراء من يدعو الى الخروج بسرعة من القطاع.
وتقول الصحف الإسرائيلية إن العالم الذي أبدى التسامح تجاه ردّ فعل إسرائيل على نار الصواريخ، سرعان ما سيتحوّل الى انتقاد الوحشيّة الإسرائيلية في قتل المدنيين، وبوادر هذا الانتقاد بدأت بتظاهرات صاخبة في الشوارع، وإذا اضطرت إسرائيل الى مواصلة الحملة، فإنها سوف تواجه المزيد من الاحتجاجات. وإذا كانت «حماس» قد تكبّدت ـ والكلام للصحف الإسرائيلية ـ هزيمة عسكرية أليمة، فإنها بعد وقف النار سوف تحظى عملياً باعتراف، بحكم الأمر الواقع، بأنها كيان سياسي يحكم غزّة.
لكن صحيفة «لوموند» الفرنسية تذهب الى أبعد من ذلك إذ تقول: الجيش الإسرائيلي عازم على الدخول الى قلب غزّة، مهما ارتفع الثمن ومهما كلّفت المسألة من خسائر ماديّة وبشرية لدى الطرفين. هذا ما يؤكّده الزحف العسكري البرّي للدبّابات الإسرائيلية كل يوم. وحتى بوجود محاولات دولية لتطويق الأزمة، تبدو تل أبيب عازمة على المضي في خطّتها حتى النهاية. الأوضاع الدامية في هذا القطاع الصغير لا ترسم مدى جدّيّة إسرائيل في ملاحقة عناصر «حماس» فحسب، بل تجسّد أيضاً فشل كل السياسات والمواثيق الدولية، كما أنها تعني فشل المبادرات السياسية والعسكرية التي كانت إسرائيل تقوم بها منفردة استكمالاً لخطوات اعتدنا أن تكون آحادية الجانب. وليس أدلّ على تلك السياسة الآحادية أكثر من الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزّة في العام ٢٠٠٥، عندما تناولت أوساط صحيفة دولية ذلك الانسحاب على أنه «خطوة جبّارة». تلك «الخطوة» اتّضح اليوم أنها غير مدروسة، ولم تعد بالفائدة لا على إسرائيل ولا على السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس. بالأمس كانت الأوساط السياسية تشهد لشارون «انسحابه الشجاع من القطاع». وتبيّن لاحقاً أنها خطوة تدلّ على قلّة الدراية السياسية. ففي تلك المرحلة بالذات، لم يكن الإسرائيليون ولا الفلسطينيون في حاجة الى انسحاب آحادي، بل الى خطوة مدروسة بعناية مع السلطة الفلسطينية، ولكانت النتائج غير تلك التي نراها اليوم. تلك هي جذور الأزمة التي تعصف بقطاع غزّة، وتلك هي بعض الأسباب التي كانت وراء غرق غزّة في العنف. ومن بين الأسباب الأخرى أن إسرائيل عندما قرّرت وقف بناء عشرات المستوطنات على الخط الضيّق على الحدود مع القطاع، كانت قد حرمت آلاف العمال الفلسطينيين في القطاع من فرص العمل. واستلزم الأمر أكثر من شهرين قبل حصول عدد قليل منهم على موافقات للعمل خارج القطاع، بعد تحرّك خجول من قبل وزيرة الخارجية الأميركية رايس. وحتى تلك الخطّة لم تتمّ استشارة الرئيس الفلسطيني في خصوصها. هذا بالاضافة الى إجراءات ميدانية كثيرة في القطاع المحاصر فعلياً منذ العام ١٩٩٤، ثم منعت تلك الموافقات مرّة أخرى رغم معارضة مبعوث الرباعية الدولية آنذاك، جيمس وولفنسون المدير السابق للبنك الدولي، لتعود الأوضاع المعاشيّة والمعيشية في القطاع الى أزمة اقتصادية خانقة أثّرت في فكر الأفراد وتوجّهاتهم. وبدأت الأحداث تمضي نحو الأسوأ. حتى بعد فوز «حماس» في الانتخابات التشريعية في العام ٢٠٠٦ كان دور محمود عباس مهمّشاً في تلك الفترة، واستطاع قادة الفكر لدى «حماس» إقناع الشعب الفلسطيني بأن السلطة «تعاني فساداً وترهّلاً لا علاج له»، وإقناع الناخب الفلسطيني بضرورة معاقبة السلطة الوطنية وحركة «فتح» عن طريق صناديق الاقتراع والبحث عن بديل ناجح، ممثلاً بـ«حماس». ثم جاءت الحرب الأهلية واقتتل الإخوان الفلسطينيون فيما بينهم لمجرّد أن كل طرف ينتمي الى حركة، الأول الى «فتح» والثاني الى «حماس». وهنا تمكّنت «حماس» من السيطرة مرّة أخرى على مقاليد السلطة داخل القطاع، ولكن هذه المرّة بقوّة السلاح فيما وصف آنذاك بأنه «انقلاب على السلطة الفلسطينية». وحتى إن استطاعت الدبّابات الإسرائيلية تهديم كل المقارّ وقتل ما أمكن من الناشطين لدى «حماس» في القطاع، فلن يعود ذلك بأي فائدة على السلطة الفلسطينية. وليكن معلوماً أن حركة مثل «حماس» لن تنهار بسهولة، ولن تنتهي تحت جنازير الدبّابات، لأنها حركة تستخدم القوّة، لكنها لم تأت وليد القوّة، بل وليدة العجز السياسي في المنطقة. لم تحسب إسرائيل منذ العام ٢٠٠٥ خطواتها بعناية، ولا يبدو أنها تفعل ذلك حالياً. مع ذلك، كان من الممكن أن نتصوّر مستقبلاً مختلفاً للقطاع، ولو بعد حين، بعد الانسحاب الإسرائيلي منه في العام ٢٠٠٥، لكن أي مستقبل سنتصوّره اليوم للقطاع وأمن المنطقة واستقرارها بعد كل هذه المشاهد والوقائع؟ >

منقول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق