قبل الرصاص المصهور، كان العالم مستمسكا بشروط "الرباعية الدولية" الثلاثة المعروفة للتعامل مع حماس، اليوم هناك محاولات "تفلت" واضحة وحثيثة، من هذه الشروط.. فإسرائيل قلقة جدا من "النوايا" الفرنسية للهبوط بسقف هذه الشروط والخروج على قيودها، وفي دمشق أكد الرئيس السوري بشار الأسد أن بلاده تحتضن حوارات سرية أوروبية- حمساوية، وهو ما أكده رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، وحملت عليه صحف تل أبيب العبرية بالأمس حذرت منه ومن عواقبه.
قبل الرصاص المصهور، كان العرب يتعاملون مع السلطة (وليس المنظمة) كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وكان ينظر للقطاع كإقليم متمرد وفقا للتعبير "المضحك المخجل" للسلطة، اليوم تكاد غزة تختصر فلسطين برمتها، فيما العرب (حتى المعتدلون منهم) يتجهون للتعامل المباشر مع الفلسطينيين في غزة، من دون حماس ولا فتح، وبمعزل عن حكومة تصريف الأعمال أو الحكومة المقالة، وثمة نية لدى أطراف عربية ودولية متزايدة، لإتمام ملف إعادة الإعمار بعيدا عن الفريقين المنقسمين، علما بأن السلطة وبعض العرب وإسرائيل وبعض الدوائر الغربية، تريد لإعادة الإعمار أن يمر بقناة السلطة، وتسعى في تسييسه، فتعود السلطة إلى غزة على ظهر جرافة بعد أن تعذرت عودتها (أو هي امتنعنت عن العودة) على ظهر دبابة.
خلاصة القول، أن حماس التي أريد لها أن تدفن في الرصاص المصهور، خرجت من الحرب أكثر قوة وحضورا على المستوى السياسي، وثمة في كثير من الأوساط الغربية من يقول أن الوضع بعد غزة لا يجب أن يعود كما كان قبلها، في إشارة إلى ضرورة أعادة التفكير في التعامل مع السلطة وحماس والمنظمة، ومن مختلف الزوايا السياسية والإنمائية والإعمارية وغيرها.
مثل هذا الأمر، يملي على حماس أن تسارع فورا ومن دون إبطاء، إلى إجراء مراجعة شاملة لمقارباتها وأولوياتها، من أجل توظيف نتائج صمودها وثبات شعبها سياسيا، وتحويلها إلى مكاسب للشعب والقضية ولحماس أيضا، وهذا يتطلب إبداء مزيد من المرونة في اللغة والخطاب والتحالفات، هذا يتطلب انفتاحا أوسع وأكبر على ما هو وطني وإنساني في خطابها لتقوى على مخاطبة حركة التضامن الدولية وإدامتها وتطويرها والبناء عليها، عليها أن تتصرف كقيادة للشعب (لا لفصيل)، وأن تنفتح على مختلف مكوناته وأن تبحث في صياغة الأطر والتحالفات اللازمة لذلك.
ما لم تقدم حماس على خطوات جدية ملموسة على هذا الطريق، فإن حكاية "أن الحركة هي القوة الرئيسة على الأرض في غزة" لن تنفع حماس طويلا، فلا يكفي أن تكون "المنتصر عسكريا"، عليك أيضا أن تكون "المنتصر سياسيا"، ولا يجوز أن تهبط ثمار التضحية والشهادة والصمود والبطولة في غزة، في أفواه أوساط وقوى تآكلت واستهلكت في دوامة الخيارات المأزومة، والأداء المثير للريبة والفساد الذي يزكم الأنوف.
على حماس أن تتصرف بعد غزة، على أنها "أم الولد"، فتعمل بكل ما بوسعها لمنع تكريس انشطار الوطن إلى قسمين متباعدين، عليها أن تسعى في سحب البساط من تحت أقدام بعض القوى الانتهازية والمفلسة، عليها أن تعمل على استعادة الجسم الأكبر من فتح وعدد من الفصائل الفلسطينية من تحت عباءة "التيار الأمريكي - الإسرائيلي" الذي اختطف المنظمة وعطّل إصلاحها وإعادة بنائها، وحوّل السلطة إلى امتداد لجهاز الاحتلال وأذرعته الأمنية.
مثل هذا التصرف يحتاج إلى مزيد من المرونة في السياسة واللغة والخطاب والتحالفات، يستوجب إتقان فنون التفاوض والمقاومة على حد سواء، ويتطلب إتقان أدوات الصراع وفنونه في الحقل السياسي، من دون تفريط أو إفراط، أو الركون إلى "نشوة اللحظة" السياسية ومظاهرها الانتصارية، فالمعركة ما زالت في بدايتها، ومن الظلم أن ينتهي زلزال غزة بالعودة إلى ما كنا عليه قبل السابع والعشرين من كانون الأول الماضي، من العبث أن لا ينتهي هذا الزلزال إلى إعادة صياغة النظام الفلسطيني ككل وتطهيره من الاختراقات والجيوب والطفيليات العالقة به، من العبث أن يقطف الشتّامون والشامتون، الردّاحون على الفضائيات (..)، ثمار نصر غزة وتضيحات شعبها وصموده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق