الاثنين، 19 يناير 2009

بدلاً من البكاء ... بقلم : عبد الحليم قنديل

إذا أردنا أن نبكي، فليس لسيل دموعنا من آخر، ونحن نشاهد صور ومآسي شهدائنا وجرحانا في محرقة غزة، آلاف الضحايا، ومئات النساء، وابتسامات لأطفال يحترقون في المهد، وصمت بليد لمجتمع الدول، وهمجية مفزعة لآلة الحرب الإسرائيلية النازية التي تسعى لتدمير كل حجر وقتل كل البشر .
نستطيع أن نطلق العنان للدموع، لكننا ـ إن فعلنا ـ نقع في الخطأ الذي يراد لنا بالضبط، وهو الندب واللطم وفوات العقل، وكأن الفلسطينيين مجرد جماعة بشرية سيئة الحظ، أوقعتها المصادفة في مصيدة النار، وحرمتها من كل مقومات الحياة، وحاصرتهم كما حوصر المسلمون الأوائل من قبل كفار قريش، وقد حدث لغزة كل ذلك وأكثر، لكنه لا يبرر حصر القصة في جانب إنساني مأساوي على صحته، وحصر الواجب في إبداء التعاطف مع الضحية، والمسارعة إلى نجدة مستحقة بالغذاء والدواء ومولدات الكهرباء.
نعم
حصر مسألة غزة في مشهد المأساة خطأ وخطر، ويجردها من طابعها الوطني التحرري، ويوردنا إلى المهالك التي تراد لنا بالقصد، كأن تكون صيحتنا هي وقف إطلاق النار بأي ثمن، وإعادتنا إلى ترتيبات الخنق الدائم بدلاً عن الخنق الموقوت الملتهب، وتجريف فكرة المقاومة "التي جلبت كل هذا الخراب" كما تقول "إسرائيل"، وكما يقول معها إعلام ملوث تابع في غالبه لحكومات التواطؤ العربي.
وبدلاً من أن تتلاحق دموعنا إلى حقول البكاء، بدلاً من أن نقول "هيا بنا نبكي"، نستطيع أن تقول ـ بثقة ـ هيا بنا نقاوم، وأن نرى في القصة جانبها الأسطوري، وليس فقط ظواهرها المأساوية، فقد كانت لبركة الدم الشهيد آثار المعجزات، فلم تكن قضية فلسطين في عين العالم كما هي الآن، ومنذ زمان طويل في الماضي، لم تتألق قضية فلسطين كمعركة تحرير وطني كما هي الآن، ليس لأن العالم تغير، فقد أصبحت قواه الحاكمة ـ في الغرب بالذات ـ أكثر ظلماً وعدوانية وتعنتاً وتنكراً للقيم الإنسانية، وليس لأن العدو الإسرائيلي تغير، فقد أصبح أكثر شراسه وهمجية، وأفصح عن طبيعته النازية بلا رتوش، ولا يتورع عن استخدام قنابل الفوسفور الأبيض وسواها من الأسلحة المحرمة دولياً، ويهدد باستخدام القنابل الذرية، ويشن غارات الصدمة والترويع لحصد المدنيين بالذات، وتفتح له مخازن السلاح الأمريكي المتطور بغير حساب، وبالجملة: صارت الظروف المحيطة أسوأ من أي وقت مضى، وزادت عناصر السوء بتدهور النظام العربي، وسكن الحكام العرب في جلودهم خيفة من قوة "إسرائيل"، أو طلباً لرضاها، لكن الذي تغير في وسط كل هذا الظلام هو دفقة الضوء الباهر، الضوء الذي ينبعث من رماد محترق، ضوء المقاومة من نوع مختلف، المقاومة الجديدة التي بدأت سيرتها في العقود الأخيرة، المقاومة التي تبتعث في الأمة أنبل ما فيها، المقاومة التي تستظهر ثقافة الاستشهاد، وتخوض حروبها بثقة كأنها تقرأ من اللوح المحفوظ، وتطور تكنولوجيا ملائمة، المقاومة التي تمثلها جماعات شعبيه تعتصم بتراث الأمة، وتشكل جيوشاً لا تقهر، فقد زادت قوة "إسرائيل" أضعافاً، لكن قوة "إسرائيل" الزائدة واجهتها طاقة مقاومة زائدة، ونشأ نوع جديد من الحروب غير مسبوق في تاريخ الصراع كله، حروب عابرة للأسابيع وللشهور، وبطاقة نيران إسرائيلية مهولة، وبتركيز على قتل المدنيين، ولكن بغير مقدرة على تحقيق النصر، فقد حرمت المقاومة الجديدة "إسرائيل" من أي فرصة لنصر بالمعنى العسكري النهائي، وأثبتت أن بوسعها تحرير الأرض، وكما جرى في الجنوب اللبناني، وكما جرى في إرغام "إسرائيل" على ترك غزة وتفكيك مستوطناتها قبل سنوات، وكما يجري الآن في حرب التحرير الثاني لغزة .
نعم، لم يذهب آلاف شهدائنا وجرحانا كمجرد ضحايا لمصادفة النار، بل كشف الدم الشهيد غشاواتنا عن أبصارنا، واستعاد لقضية فلسطين حرارتها في الوجدان، وصارت صرخة فلسطين هي الأعلى صوتاً في دنيا العرب، وبعد أن كان الوعي بالقضية يتلاشى، فقد بدت مظاهرات نصرة فلسطين هادرة في أقطار العرب من الماء إلى الماء، وخرج الملايين إلى الشوارع، وفي صدام مفتوح مع الحكام العرب الذين ضبط أغلبهم متلبساً بجرم الخيانة، وهذه أعظم بركات المقاومة والدم الشهيد، فقد أثبتت غزة أن الدم يهزم السيف، وأن المقاومة قادرة على الصمود في وجه أعتى آلة حرب، وقدمت مثالاً ملهماً موقظاً للنائمين في الشارع العربي، فإذا كانت غزة الصغيرة قادرة على مواجهة "إسرائيل"، إذا كانت غزة الصغيرة المحاصرة قادرة على العصيان، فإن الرسالة باتت واضحة، وهي أنه بالوسع تحدي أي قوة مهما بلغ جبروتها وقوة نيرانها، وبوسع الشارع العربي الواسع ـ من باب أولى ـ تحدي قوات حكامه، واستعادة العروة الوثقى بين جماهير الأمة وقدرها الفلسطيني، وهي الصلة التي كانت قد تفككت منذ انهيار المشروع القومي العربي قبل عقود، وفي المحيط الإسلامي بدت قضية فلسطين كأنها تبعث من رماد التجاهل، ومن إيران إلى باكستان إلى أندونيسيا إلى ماليزيا، وفي تركيا حدث ما يشبه المعجزة التاريخية، فقد فصلت تركيا طويلاً عن عالمها الإسلامي، وانفصلت عن قضاياه، وجرى إلحاقها بحلف الأطلنطي وعلمانية الدبابات، وجرت "أوربة" نخبها وإقصاءها عن هموم الجغرافيا والتاريخ، ثم جرت تحولات في المشهد الثقافي والسياسي، وصعدت ظاهرة أردوغان وحزبه، لكن العلاقة مع إسرائيل" ظلت لها الأولوية على حساب العذاب الفلسطيني، ثم كان التحول الدرامي في حرب غزة، وبدا علم فلسطين في مظاهرات اسطنبول المليونية كأنه صار صنوا للعلم التركي.
ولم يكن لهذه التحولات أن تحدث، ولا لهذه اليقظة في العالمين العربي والإسلامي أن تتم، ولا ليقظة ضمائر تعد بالملايين في الغرب نفسه أن تجري، لم يكن كل هذا الزخم المضاف وارداً بدون الصمود الأسطوري للمقاومة، فلا أحد ينتصر لقضية ما لم ينتصر لها أهلها، وقد أثبتت غزة أنها عنوان فلسطين المضيء بوهج الدم، وأن الدم الشهيد قادر على كسر سيف "إسرائيل"، وفضح همجيتها الدموية، وكشف تكوينها الغاصب العنصري النازي، وكسب معركة الإعلام والضمائر.
وقد يتطوع أحد بوصف الحماس لمقاومة غزة بالنظرة غير الإنسانية، والتي لا تكترث بدم الضحايا، ولا بعذاب الناس، وهذه لغة خشبية وكلام أجوف، فالتكلفة الإنسانية جزء من حساب المقاومة، ولم يحدث أبداً أن تحرر شعب بدون تكلفة دم باهظة، الجزائر ـ كمثال ـ قدمت مليوني شهيد ثمناً للتحرر من الاستعمار الفرنسي، ولم يحدث في التاريخ أن تساوت أو تقاربت قوة نيران المقاومة مع قوة نيران المستعمر الغاصب، كانت قوة المستعمر على إلحاق الأذى دائماً أكبر بما لا يقاس، وصحيح أن "إسرائيل" تلحق الأذى بالفلسطينيين، وبأكثر من مئة مرة قياساً لما يلحقها من قتلى وجرحى، لكن مقدرة الفلسطينيين على احتمال الأذى أعظم بمليون مرة قياساً للإسرائيليين، وقد كانت "إسرائيل" ـ فيما مضى ـ تلحق بنا الأذى وتفوز بالنصر الخاطف، لكنها ـ هذه المرة ـ تعجز عن النصر مهما ألحقت من أذى ودمار، فقواعد المقاومة الجديدة تقام في القلوب قبل الميادين، وإحساس "إسرائيل" الغريزي بالهزيمة يدفعها إلى شراسة الذئب الجريح.
* كاتب من مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق