فلسطينياً: ستكرس هذه الحرب قوة ووجود حركة «حماس» في الساحة الفلسطينية وتمنحها شرعية إضافية. «حماس» مرت بمراحل متعددة منذ تاريخ نشوئها في أواخر 1987. كل مرحلة نقلتها إلى ما يليها في منحنى صاعد: المرحلة الانتفاضية الأولى (1987-1993)، مرحلة المعارضة السياسية لاتفاقيات أوسلو والسلطة الفلسطينية (1994-2000)، المرحلة الانتفاضية والعسكرية الثانية (2000-2005)، ثم مرحلة الانتخابات والسلطة (2006-2008)، والآن مرحلة ما بعد حرب غزة (2009). في كل مرحلة من تلك المراحل، وعلى خلفية استمرار الاحتلال الإسرائيلي وتكرسه وفشل الحلول السلمية، كانت «حماس» تكرس وجودها وشرعيتها (بالانتفاضة، بالمعارضة، بالمقاومة، بالانتخابات، والآن بالحرب). حرب غزة هي النقلة الكبيرة الأهم بعد مرحلة الانتخابات الفلسطينية في تكريس شرعية «حماس».
إلى ما قبل الحرب بقليل كانت الشرعية الفلسطينية الوطنية متشرذمة بين شرعية منظمة التحرير الفلسطينية والرئاسة الفلسطينية في رام الله، وشرعية «حماس» المنتخبة في قطاع غزة ورام الله، لكنها المتجسدة فقط في القطاع. شرعية رام الله تقوم على ركنين: شرعية الرئيس الفلسطيني محمود عباس كرئيس منتخب، وشرعية الاعتراف الدولي المرتبطة بالاتفاقات مع إسرائيل. شرعية «حماس» تقوم على ركن أساسي وهو فوزها في انتخابات ديموقراطية حرة ونزيهة. مع انتهاء الولاية الدستورية للرئيس الفلسطيني، وبعيداً عن التبريرات الضعيفة قانونيا لتمديد تلك الولاية لمدة سنة إضافية، ينخفض منسوب شرعية السلطة الفلسطينية في رام الله ليتوقف عند شرعية الاعتراف الدولي والعلاقات مع العالم الخارجي: أي أنها شرعية مصدرها خارجي. ومع حرب غزة تضيف «حماس» إلى شرعية الفوز بالانتخابات شرعية كونها الطرف الرئيسي الذي خاض الحرب ضد إسرائيل. حرب غزة بالنسبة الى «حماس» هي ما كانته حرب الكرامة لحركة «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1968: الرافعة الشعبية والسياسية والعسكرية لتكريس الشرعية. طالما تواجد الاحتلال الإسرائيلي وزاد وحشية وتكرساً فوق الأرض الفلسطينية سوف تظل مقاومة هذا الاحتلال جوهر الشرعية الفلسطينية. إذا انتهى هذا الاحتلال تصبح الانتخابات ونتائجها هي المحدد الأساسي والوحيد لمصدر الشرعية والسلطة.
خسارة «فتح» ومنظمة التحرير والرئاسة في رام الله من جراء حرب إسرائيل ضد غزة و «حماس» باهظة على كل المستويات. لقد قوضت إسرائيل ما تبقى من شرعية للرئيس الفلسطيني حين أظهرته عاجزاً والسلطة في رام الله عن عمل أي شيء فيما مليون ونصف مليون فلسطيني من شعبه تحت نيران الحريق الإسرائيلي اليومي. لم يستطع الرئيس الفلسطيني أن يعلن إيقاف المفاوضات المتوقفة أصلاً، ولو حتى كموقف ديبلوماسي موقت يحاول ترميم الصورة المتردية. البطش الإسرائيلي الأعمى أغلق الملف باكراً على كل حديث عن تبادل اللوم وتحميل «حماس» المسؤولية لهذا السبب أو ذاك. في أي حرب مع إسرائيل لا يقبل الوجدان الفلسطيني العام موقفاً فلسطينياً محايداً أو وسطاً. إسرائيل هي العدو المحتل وعندما تخوض حرباً من حروبها الدموية ضد الشعب الفلسطيني هناك موقف واحد يتوقعه جميع الفلسطينيين من جميع الفلسطينيين، ناهيك عن قيادتهم.
عربياً: خسرت دول «محور الاعتدال» جولة أخرى، بعد خسارتها حرب صيف 2006. الولايات المتحدة والغرب واصلا خذلانهما للدول العربية المعتدلة عن طريق الدعم المتواصل والأعمى لسياسات إسرائيل وحروبها. سياسة الإهمال واللامبالاة تجاه ما يحدث من انزياحات سياسية واسعة من جراء حروب الولايات المتحدة مُضافة إليها حروب إسرائيل أدت إلى إضعاف منطق الدول العربية المعتدلة أمام شعوبها وأمام الأطراف الإقليمية والدولية أيضاً. واشنطن وبروكسل وتل أبيب لم تلق بالاً لأهم وأكبر تنازل عربي جماعي نحو السلام مع إسرائيل ممثلاً في المبادرة العربية التي أعلنتها قمة بيروت عام 2002. برفض تلك المبادرة وعدم الاهتمام بها أسقط في يد الدول العربية الكبرى، ووضعت في مأزق كبير. منذ ذلك العام وحتى الآن تضاعف جبروت إسرائيل وبطشها واحتلالها، الذي لا تستطيع الدول العربية إيقافه أو التقليل منه.
أدى هذا المأزق الاستراتيجي الكبير، تزايد وحشية إسرائيل وغطرسة حروب أميركا، مقابل عجز العرب، إلى اتساع حيز الفراغ السياسي في المنطقة الخالي من رد الفعل. وكان هذا الفراغ هو المحفز والمغري لدول مثل إيران، وحالياً تركيا، لأن تقفز لتملأه. ووجود هذا الفراغ هو الذي يدفع مقاومات مختلفة كـ «حزب الله» و «حماس» الى البروز والاستقواء. عندما تغيب الدول عن رد الفعل الذي يتناسب مع الحدث تتراجع شرعية سيطرتها على الحيز السياسي، فيتولد الفراغ الذي تحتله المقاومات. في ظل ظرف وجود دولة احتلالية وتوسعية شمالاً وجنوباً وتملك جيشاً باطشا لا تتوانى عن استخدامه لطحن المدنيين، لا بد من وجود قوى رادعة، ليس شرطاً بالحرب والقوة العسكرية، فهذا نعلم جميعاً أنه ليس في وارد الدول العربية، لكن بالسياسة الحازمة والاستراتيجيا المانعة. كل ذلك لم يتوفر في الحرب الأخيرة، وعدم توفره أضعف شرعيات الدول العربية ونفوذها وصورتها أمام شعوبها والرأي العام في بلدانها. شرعيات الدول والحكومات تتأتى هي الأخرى من التشكيل التاريخي الأولي، بالحرب أو غيرها، ثم تتواصل إما عبر الانتخابات، او التعبير العام والإجمالي عن مصالح وتطلعات ورغبات شعوبها. عندما لا يتوفر أي من ذلك تضعف شرعيات الدول، وتصبح حكوماتها هشة، ويتزايد اتساع الشقوق في بنيتها الداخلية. ومرة أخرى لا يُطالب أحد بإطلاق حروب أو القيام بما لا طاقة للدول العربية به. لكن الانخفاض الكبير عن سقف الحد الأدنى من الرد والموقف المتوقع يخلف دماراً في الشرعية لا يني يتراكم.
غربياً وأوروبياً: خسر الغرب وخسرت أوروبا مرة أخرى معركة القيم، وازداد انكشاف مستوى النفاق والتردي السياسي الغربي عندما يتعلق الأمر بفلسطين. لو قتل الفلسطينيون أو العرب ثمانين إسرائيلياً كل يوم على مدار أسبوعين لقام العالم ولم يقعد. قام العالم ولم يقعد بعد في آذار (مارس) 1996 عندما هرع أكثر من ثلاثين رئيس دولة يتقدمهم بيل كلنتون لعقد قمة «ضد الإرهاب» في شرم الشيخ بعد سلسلة من العمليات الانتحارية في إسرائيل التي سقط من جرائها بضعة عشرات من الإسرائيليين على مدار أسابيع. قبل اندلاع حرب غزة كانت صواريخ «حماس» وكل الفصائل الفلسطينية قتلت خلال ثماني سنين اربعة إسرائيليين. جيش إسرائيل قتل في قطاع غزة وحده اكثر من ألفين وتسعمئة فلسطيني في نفس الفترة، بحسب إحصاءات منظمة «بتسيلم» الإسرائيلية لحقوق الإنسان. السياسة الغربية ترى أفراد القتلى الإسرائيليين، ولا ترى آلاف القتلى الفلسطينين. هذا ليس نفاقاً فحسب. إنه سياسة تغذي التطرف في قلب الجاليات المسلمة في أوروبا. ما يحدث في الشرق الأوسط وضد الفلسطينيين هو العتاد الأهم لخطاب ابن لادن وتنظيم «القاعدة». أو بالأحرى، مع وجود مشاهد الدم المستباح في غزة هذه الأيام، لم تعد هناك حاجة لخطابات ابن لادن أو الظواهري كي تستثير غضب الشبان المسلمين في طول العالم وعرضه، وفي أوروبا والولايات المتحدة على وجه التخصيص. فضلا عن ذلك فإن اعتماد مقياس منحاز تُقاس به قيمة حياة البشر هو ممارسة عنصرية. فبحسب هذا المقياس تتبدى قيمة حياة الإسرائيلي أكثر قيمة ووزناً من قيمة حياة الفلسطيني أو العربي بألف مرة. هذا يُسمى بحسب القيم الأوروبية عنصرية بحتة، وتصبح هذه القيم فاقدة لأي شرعية حداثية أو إنسانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق