كيف تصنّف إصرار محطة ورثة الملك فهد (لا يزال رضوان السيّد يبكيه بحرقة بالغة) على تذكير الرأي العام بعدد طائرات العدو وغوّاصاته من دون توقّف؟ كيف تفسّر نشر موقع سعودي إباحي ـ سوقي لمقالة بعنوان «الجيش الإسرائيلي يسحق عملاء إيران في غزة»، ثم يعود ذلك الموقع للتسويغ عبر القول إنه «محايد» حيال ما يجري في غزة؟ وماذا عن نفحة التعاطف مع البيانات العسكريّة الإسرائيليّة في نشرة آل الحريري؟ كيف تصنّف، مثلاً، إصرار مواقع سعودية وحريريّة على وضع المقاومة في وضع لا يمكنها فيه أن تنجح: فهي مُلامة إذا انتصرت لأنها دَفّعت البلاد أثماناً باهظة، وهي مُلامة إذا خسرت، لأن الكفاح المسلّح لا فائدة له؟ وموقع لصحافي في نشرة آل الحريري يلوم حزب الله إذا لوّح بمساعدة «حماس»، ثم يلومه لعدم فعل شيء لمساعدة «حماس»؟
وعندما ترى المقالات الطوال في الإعلام العبري عن تحضيرات قبل شهور لغزو غزة، تتيقّن أن إثارة الفتنة السنيّة ـ الشيعيّة كانت من أجل إقناع الرأي العام العربي بأن إيران هي العدو، وليس إسرائيل. ولكن عندما ترى مشاهد التظاهرات في طول العالم العربي وعرضه، (لا) تأسف لضياع الملايين من دولارات الدعاية في موازنة آل سعود.
كيف تحلّل مقولة «عضو قيادي» في حركة يساريّة متحالفة مع آل سعود عندما يحدّثك عن «الفكر الغيبي» لـ «حماس»، فيما تنهال الصواريخ والقنابل فوق رؤوس الأطفال في غزة؟ ماذا تفعل بأقنية فضائيّة عربيّة تصرّ على استضافة مهذّبة لأبواق جيش الاحتلال، وكأن الإعلام الأميركي الذي يتمثّلون به كان يستضيف ممثلي الأعداء في خضمّ الحروب؟
أما عن التوافق والتطابق والتكامل والتناغم بين خطاب 14 آذار ومصالح إسرائيل المُعلنة والمخفيّة، فعليكَ ألا تنجرّ وراء نظريّة المؤامرة، أو التحالف بين الطرفيْن، حتى لو رأيت صورةً لجائزة درع الأرز التي تسلّمها جون بولتون، الذي يقع على يمين أرييل شارون في مروحة التيّارات الصهيونيّة. ثم كيف تنجرّ وراء نظريّة المؤامرة وهناك نظريّة «صاءبت» ـ أي أن الصدفة وحدها تفسّر التوافق بين الحركتين؟
أستطيع أن أبدأ في حديث تقارير «التنمية البشرية» التي صمّت آذاننا منذ اندلاع عقيدة بوش. هل هي صدفة؟ نحن نعلم أن كل مصاريف الأمم المتحدة تخضع لموافقة وإذن أميركيين منذ وافقت الولايات المتحدة بشروط على دفع ما توجب عليها من متأخّرات للأمم المتحدة في التسعينيات. وتقارير التنمية وحدها تخضع لكرم أميركي غير معهود بوجود تقتير أميركي في كل نفقات الأمم المتحدة. وتقارير التنمية تهدف ليس فقط إلى التحقير الذاتي (أننا متخلّفون) بل إلى الإلهاء: أي أنه علينا ترجمة كتب برنارد لويس وتوماس فريدمان بدلاً من التفكير بمقاومة العدو وبالكفاح من أجل العدالة الاجتماعية (والهدفان غائبان تماماً عن أولويّات تقارير التنمية المُجترّة باستثناء كلام عام ومبهم في الديباجة عن «ضرر الاحتلالات»، وكفى القراء شرّ المقاومة وشرّ المساواة الطبقيّة). ومؤسّسة «فكرية» تابعة للأمير خالد الفيصل (هل يجتمع الفكر بالنفط؟ إلا عندنا، وهل تستطيع أن تمزج الفكر بالنفط من دون أن تلوّثَه؟) سارت على صراط تقارير التنمية وعاجَلَتنا بتقارير كئيبة عن عدد القراء العرب. وبثت محطات فضائية التقارير تلو التقارير عن قلة القراء العرب، وهم دائماً يستشهدون بما قاله دايان عن العرب.
أولاً، لم يقل دايان هذا الكلام. ثانياً، وما همّ لو قاله ديان؟ هل أصبح دايان خبيراً في الثقافة العربيّة وفي المطالعة؟
وثالثاً، لماذا دائماً نأخذ الحكمة من أفواه... الصهاينة؟ ما هي مكامن العقدة المُتحكمة التي تدفع بالصحافيّين والسياسيّين والأكاديميّين للاستشهاد الدائم بإسرائيليّين؟ وهناك من لا يزال يستشهد بزئيف شيف، وهو في القبور. رابعاً، من قرّر هكذا، على غرار الإعلام المُعادي، أن دايان كان عبقرياً، حتى عسكريّاً؟ ليس من عبقريّته، وإنما من مزايا أعدائه من طراز زعماء كمجيد أرسلان (مع بعكوره) ومصطفى طلاس ـ مصطفى طلاس يا محسنين ومحسنات ـ وعبد الحكيم عامر. أي جندي في أي جيش كان أكثر كفاءة من هؤلاء الثلاثة (أو من الياس المرّ). (ونحن نفعل الشيء نفسه في المبالغة حول كفاءة أرييل شارون العسكريّة، مع أن القائد في الجانب الآخر كان الحاج إسماعيل ـ الحاج إسماعيل يا محسنين ومحسنات). خامساً، من يصدِّق أن هناك إحصاءات موثوقة عن نسبة القراءة والقرّاء في العالم العربي؟ هذه تخمينات أقرب إلى الخزعبلات، وقد نشر الصحافي البريطاني بريان ويتاكر (وهو رصين وقدير رغم تأليفه كتاباً فضائحياً غير رصين عن المثليّين في العالم العربي) نقداً مُقنعاً لتقارير التنمية (الاستعمارية ـ يجب القول).ثم لماذا تعطّشت الدول الغربيّة لتقارير التنمية هكذا فجأة في عهد بوش عندما كان يعدُّ للحرب على العراق؟ ولماذا سارع توماس فريدمان (مؤلف مبادرة الملك عبد الله للتطبيع مع إسرائيل) إلى الترويج للتقارير، الواحد تلو الآخر؟ هل هي الصدفة مرّة أخرى؟ وكيف يمكن تعداد الكتب؟ وهل هناك من أخبرَ معدّي (ومعدّات) التقارير أننا في العالم العربي (وفي كل الأصقاع الفقيرة) نلجأ إلى قرصنة كل شيء، لفخرِ الفقراء؟ والقرصنة غائبة عن التعداد التنموي. هل يمكن، مثلاً، أن نرصد مدى استهلاك برامج الكومبيوتر في العالم العربي عبر رصد المبيعات فقط، فيما معظم البرامج المُستعمَلة مُقرصنة وغير خاضعة للدراسة ولأرقام الإحصاءات؟ ثم طبيعة القراءة في العالم العربي تختلف عنه في الغرب؟ الكتاب الواحد في قرية واحدة يتناقله أبناء البلدة الواحدة وبناتها. الكتاب الواحد يشير إلى قارئ واحد في الغرب، لا في الشرق حيث التناقل في غياب المكتبات العامّة مألوف.
لكن الحرب النفسيّة بدأت باكراً في تاريخ الصهيونيّة. علمت الصهيونيّة أنها تحتاج إلى الخداع وإثارة العصبيّات من أجل أن تسود. الكتب العبريّة تتحدّث اليوم عن خطة وُضعت عام 1920 إثر زيارة لحاييم وايزمان (الصديق لعدد من القادة العرب آنذاك، بمن فيهم رياض الصلح) لأرض فلسطين. وضع جهاز الاستخبارت الصهيوني خطة للتأثير (عبر المال) على الصحافة العربيّة، بالإضافة إلى «إثارة الشقاق بين المسلمين والمسيحيّين» (راجع كتاب هيليل كوهين، «جيش من الظلال»، ص. 17). وقد يكون الإنجاز الأكبر للصهيونيّة هو في إقناع الرأي العام العربي بعمق معرفة الاستخبارات الإسرائيليّة بشؤوننا وشجوننا إلى درجة أشعرتنا بالعجز واليأس معاً. أراد الصهاينة أن يقنعوا العربي (والعربيّة) بأنهم موجودون في مخادعنا، يعرفون عنّا أكثر ما نعرفه عن أنفسنا.
إن نجاح الاستخبارات الإسرائليّة هو في الترويج لنفسها بيننا، لا في نجاحاتها أو إنجازاتها. لا يعلم العربي إلا القليل القليل عن إنجازات استخبارات أبو أياد، مثلاً، فيما هو يبالغ في علمه (غير المبني على حقائق) عن نجاح إسرائيل. قصة إيلي كوهين شغلت أكثر من قصّاص (وكتاب «رَجُلنا في دمشق» تُرجم إلى أكثر من لغة) وحَبَكت أكثر من فيلم في الغرب. لكن نجاح الجاسوس المذكور مُبالغ فيه. جعلوا منه أهم رجل في البلاد، وصديقاً شخصياً لأمين الحافظ (واختلق الصهاينة معرفة بين الحافظ وكوهين في الأرجنتين فيما لم يتزامن الرجلان هناك). لكن فشل الموساد الذريع لم يلقَ أي اهتمام في الغرب.
إن المهمة الأساسيّة لأي جهاز استخبارات تكمن في رصد تحركات العدو العسكريّة، وفي المحطات الأساسيّة لم تنجح إسرائيل كما يعتقد الكثيرون. فشلت إسرائيل في توقع أي تحرّك عسكري عام 1973 مع أن الملك الأردني استقلّ طائرة هليكوبتر ليعبّر لأصدقائه في إسرائيل عن مخاوفه من تحرّك عسكري مصري ـ سوري مشترك ضد إسرائيل. كم كان مُحبّاً لهم، مُدَّعي السلالة القريشيّة! الموساد كذّب إخباريّة الملك، وأكّد للقيادة السياسيّة استحالة الحرب. كيف يمكن أن نتكلّم عن نجاح للموساد فيما هو كان أكثر تعثّراً وجهلاً وتخبّطاً في ما يعزو لنفسه من نجاح عظيم في مطاردة تنظيم أيلول الأسود؟ نجح أبو أياد في تضليلهم: هم ظنّوا أن عمليّة ميونيخ كانت من تخطيط أبو حسن سلامة، فيما لم يكن له أي علاقة بها (تُراجع مذكرات أبو داوود المهمّة هنا). طارد الإسرائيليّون وقتلوا من لم يكن له أي علاقة بأيلول الأسود، مثل وائل زعيتر (والصهيوني ستيفن سبيلبرغ في فيمله «ميونيخ» صدّق المزاعم الصهيونيّة من دون مساءلة) وغيره. وهل هناك من يذكر علي بوشيكي؟ النادل المغربي الذي قُتل على يد عصابات إسرائيل الإرهابيّة (يجب أن نُكثر من وصف إسرائيل وأعمالها بـ«الإرهاب» كما فعلوا هم بشعب فلسطين، إلا إذا أردنا لهم أن يحتكروا الحرب النفسيّة وأن يحتكروا التحقير) في النروج في تموز 1973 أمام زوجته الحامل، فقط لأنهم ظنّوا أنه أبو حسن سلامة.
مات علي بوشيكي من دون «دَوْشة» كما يقول الإخوة في مصر، ولم تُثرْ الحكومة المغربيّة الأمر: الملك المولج بملف القدس كان أيضاً من أوثق حلفاء إسرائيل بين ظهرانينا، وهم كثر. والسلطات النروجية سارعت إلى إطلاق سراح إرهابيّي الموساد.
لكن عجز الاستخبارات الإسرائيليّة وجهلها برزا بوضوح في حربها على لبنان عام 2006. ماذا تقول عن جهاز استخبارات خطف مواطناً عادياً من بعلبك فقط لأن له اسم حسن نصر الله؟ حتى الاستخبارات العربيّة أذكى من الوقوع في مثل هذا الخطأ المُهين. وماذا عن عدم حصول استخبارات إسرائيل على أي معلومات مهمّة عن أعدائهم في لبنان، رغم تغلغل حلفائهم السابقين والحاليّين؟ لكن الحرب النفسيّة مستمرّة. إنها تكمن في التعجيز، وفي ترويج نسق مبتذل لاستشراقية إسرائيليّة (لم تنجح يوماً في الارتقاء إلى مرتبة الاستشراق الأوروبي الكلاسيكي الذي، رغم كل مشاكله وانحيازه، كان يتسم بالإحاطة وعمق المعرفة وإتقان اللغات والبحث الدقيق) تعتمد على الاحتقار العنصري للعنصر العربي. ولكن من الجدلية بمكان أن مشكلة الصهيونيّة كمنت في استهانتها واحتقارها للعرب، مما فاجأ إسرائيل في كل محطات حروبها ومواجهاتها وحتى سلمها مع العرب. أي أن احتقار الخصم يساعد الخصم، لأنك لا تحسب له حساباً. ومن هنا، فإن مهانة إسرائيل في لبنان كانت مهانة مزدوجة.
لكن عصر الفضائيّات يمثّل تحدياً وفرصة في آن واحد لحرب العدوّ النفسيّة. فهو من ناحية يستطيب التحالف مع آل سعود لما لهم من سيطرة أخطبوطيّة على الإعلام العربي، وهذا ما وعته الإدارة الأميركيّة بعد حرب العراق، عندما أدت محطة «العربيّة» خدمات جلّى للاحتلال، بصورة مباشرة (عبر الإعلانات السياسيّة غير البريئة) وغير مباشرة (مثل سلسلة المقابلات بين إيلي ناكوزي وأياد علاوي قبل كل انتخابات ـ تحت الاحتلال). والتحالف بين آل سعود وإسرائيل يستطيع أن ينقل بعض الإعلام العربي إلى التماهي مع مصالح إسرائيل (على طريقة الإعلام الأميركي) تحت شعار الموضوعية والحياد، وهذا ما عناه موقع «إيلاف» عبر الإشارة إلى «حياده» في الصراع الجاري.
لكن هناك اختراقاً آخر عبر التطبيع الإعلامي: الاستضافة المهذّبة لأبواق الاحتلال على محطة «الجزيرة» وغيرها يضفي على دعاية إسرائيل مصداقيّة، فتصبح الزيارات والإطلالات «خبراً» لا تحريضاً على القتل وتسويغاً للاحتلال. وتصبح مساءلة المُحتل على شاشة التلفزيون بديلاً (حضاريّاً بلغة السنيورة الممجوجة) من مقارعة الاحتلال. ثم ما معنى أن ينقل مراسلو المحطّات مزاعم وأقاويل للعدو أثناء الحرب؟ يمكن على الأقل للمحطات العربية التي ترى في التطبيع حضارة ما بعدها حضارة أن تجمّد استضافة الإسرائيليّين حتى انتهاء المعارك على أقل تقدير.لكن هناك ما لا علاقة له بالحرب النفسيّة، مثل ظهور فارس خشان الأخير على شاشة القوات اللبنانية ـ الوليد، التي هتف فيها «كلنا إسرائيليّون» (رداً على هتاف المخرج النبيل، غاري غرابتيان، «كلنا فدائيّون» ومات وهو يعمل على فيلمه بعد هزيمة 1967). لكن خشان رفض أن يدين إسرائيل لأنه كما قال «غير ضليع» بالشؤون الفلسطينيّة، مع أنه وصف أبرياء فلسطين من المدنيّين بأنهم دروع بشريّة لـ «حماس» (سمّاهم «زناراً بشرياً») أي أن «حماس» لا الجيش الإسرائيلي تتحمّل مسؤوليّة قتلهم. ونفى خشان (غير الضليع بالشؤون الفلسطينيّة باعترافه) أن تكون إسرائيل قد انهزمت في حرب تموز، وأضاف أن تقرير فينوغراد كان مخطئاً، ربما لأن مؤلفه لم يكن ضليعاً بشؤون إسرائيل. كاد خشان (الذي كتب تبجيلاً لإميل لحود في كتابه «عمود الملح») أن يقول إن الصهيونيّة هي نفسها «الطائفة المنصورة»، لكنه للأمانة لم يقل ذلك. لا علاقة للحرب النفسيّة بتحميل حازم صاغية (الذي وجد شجاعة في نفسه وانتقد بوش بلطف ـ مثله مثل أياد علاوي ـ في آخر أيام ولايته) رفض الفلسطينيّين لما عُرض عليهم في كامب ديفيد مسؤوليّة قصف غزة، مع أن مؤلف كامب ديفيد نفسه، وملحّنها وُمنسّقها، جيمي كارتر، اعترف بأن الاتفاق المذكور هضم حقوق الفلسطينيّين. أي أن مناحيم بيغن مثّل أمل الفلسطينيّين. لكن لا علاقة لذلك بالحرب النفسيّة. أن يتحدّث البطريرك الماروني، مثله مثل صائب عريقات، عن «حلقة العنف» لا علاقة له بالحرب النفسيّة أيضاً، والكلام عن «حلقة العنف» ينفي مسؤوليّة إسرائيل.
أما المديح الذي أغدقه سعد الحريري على دور ساركوزي فيما كان الأخير يدعم حق إسرائيل بقتل شعب فلسطين، فلا علاقة له أيضاً بالحرب النفسية. كل هذا يدخل في باب الصدفة طبعاً. ومن الصدفة طبعاً أن تختار نشرة «المستقبل السلفي» من كل تعليقات الصحافة العالميّة ترجمة مقالة طويلة لـ«بني موريس» (المؤرّخ الإسرائيلي الذي يقول إن التطهير العرقي للفلسطينيّين عام 1948 كان يجب أن يكون كاملاً) في عز الحرب على غزة.
ومن الصدفة أيضاً أن يحدّثك هاني فحص (الذي يتنقّل بين العقائد والمبادئ مثلما ينقّل العاشق فؤاده حيث شاء من الهوى) عن ضرورة الدولة في عزّ العدوان الإسرائيلي على غزة. يُسأل هاني فحص عن أي دولة يتحدّث هنا؟ هل ينزع شعب غزة نحو دولة... إسرائيل؟
لكن الجانب العربي يخفي من حسابه الحرب النفسيّة لسبب بسيط: هو أن الحرب النفسيّة كما نقرأ في الكتيّبات العسكريّة المنشورة ما هي إلا جزء من الحرب الكلاسيكيّة، والحكومات العربيّة (بما فيها تلك الحكومة التي لا تزال تنتظر تحديد زمان المعركة ومكانها) أسقطت الحرب على إسرائيل من حسابها. لكن الشعب يستطيع أن يمارس الحرب النفسيّة ضد العدو، وخصوصاً أنه لم يتقبّل فكرة السلام مع الكيان الصهوني. نستطيع على الأقل مراجعة حقائق ناصعة: ماذا عن مفارقة المفارقات في الحروب العربيّة ـ الإسرائليّة؟ كان الجندي العربي يخاف الجندي الصهيوني من عام 1948 حتى الثمانينيات، أو أن الجندي العربي كان أكثر خوفاً من الخصم، مما هو العكس. أما الآن، وبصرف النظر عن مجريات اجتياح غزة، فهل هناك من ينكر أن الجندي الإسرائيلي يخاف ويهاب مقاتل حزب الله ومقاتل «حماس»، أكثر بكثير من العكس؟
ألم ينعكس هذا الخوف (وانعدامه عند مقاتلي حزب الله عام 2006) على تطوّرات أرض المعارك؟ ثم، نستطيع أن نزهو بالمعرفة: نحن نعلم عن إسرائيل (ونتطرّف في رصد كل ما يجري في إسرائيل ونستظهر ما نقرأ في صحافتها) أكثر بكثير مما يعلمون هم عنا؟ لا أتصوّر أي جهاز استخبارات عربي يخطئ في خطف إيهود أولمرت مثلاً.
الحرب النفسيّة هي في نشر «نشرة المستقبل» (وبث محطة القوات والأمير الوليد) «أخباراً» عاجلة عن وصول قوات العدو الإسرائيلي إلى الليطاني، فيما كانوا يفرّون مذعورين من مارون الرّاس في حرب تموز. هي في ترداد ببغائي لعنصريّة ضدّنا: مثل تكرار القول إن العدو «يقيم حساباً لضحاياه المدنيّين» وكأننا لا نقيم حساباً لضحايانا. الحرب النفسيّة هي في تصديق مزاعمهم العنصريّة ضدّنا واجترارها ميكانيكيّاً. الحرب النفسيّة هي في الحديث عن «مأساة» و«تراجيديا» في غزة في مقالات معلّقي (ومعلّقات) «النهار»، وكأن إعصاراً (لا إسرائيل) ضرب غزة.
وهي أيضاً في نشر جريدة الأمير سلمان اللندنيّة صورة لفلسطينيّين يرفعون محارم بيضاء، فيما كانت كل غزة (حتى في شهادة الـ«نيويورك تايمز») مُصِرّة على المقاومة. هو في أن يحدّثك غسان تويني عن الأمم المتحدة وكيف حمت لبنان عام 1982. الحرب النفسيّة الإسرائيلية هي في ظهور محمد دحلان على أي شاشة عربيّة. الردّ هو في حرب نفسيّة معاكسة كي لا يعبروا فوق (وفي) أجسادنا.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق