الأحد، 11 يناير 2009

من مفاجآت الحرب على غزة ومفارقاتها .... بقلم عريب رنتاوي

من بين أهم المفاجآت والمفارقات العديدة التي تكشفت عنها "بقعة الزيت" و"الرصاص المصهور"، عودة الروح لحركة التضامن العربية والدولية مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية وكفاحه العادل من أجل حريته واستقلاله، المفاجأة أنها الحركة الأوسع نطاقا والأكثر جماهيرية منذ سنوات طوال، بل ومنذ عقود، لم نشهد مثيل لها في حرب بيروت وحصارها ولا في عناقيد الغضب وقانا، لا في حرب تموز ولا في احتلال العراق وسقوط بغداد، أما المفارقة فتذهب في ثلاث اتجاهات:
الأول، أنها المرة الأولى التي تهتف بها معظم مظاهرات التأييد للشعب الفلسطيني ضد قيادته، بل وتحملّها قسطا يتفاوت من تظاهرة إلى أخرى، عن العدوان والجريمة، من اتهامات بالتخاذل إلى أخرى بالتواطؤ، في السابق كان الغضب الشعبي العالمي ينصب على حكومات وأنظمة عربية وعلى الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، اليوم انضم النظام الرسمي الفلسطيني إلى خانة النظام الرسمي العربي في تلقي غضب الشارع وشتائمه.
والثانية: أن الحراك الشعبي المتعاظم والمليوني في بعض العواصم، يأتي في الوقت الذي تشتد في أطواق العزلة الرسمية على حركة حماس وحكومتها، وبتناسب عكسي على ما يبدو، لكأن الشارع (الشوارع) العربية والمسلمة والدولية، تحتج بخروجها للتظاهر على العدوان فحسب، بل وعلى مواقف حكوماتها وأنظمتها من حماس وغزة والقضية الفلسطينية عموما.
والثالثة: أنها المرة الأولى التي يتوحد فيها فرقاء وخصوم و"أضداد" في مهرجانات النصرة لفلسطين: سنة العراق وشيعته، سنة العالمين العربي والإسلامي وشيعته، الباكستان والهند، تركيا واليونان، شطرا كشمير وشطرا قبرص، اليساريون واليمينييون في كثير من دول العالم، حكوميون ومعارضون إلى غير ما هنالك.
لاتساع الغضب الشعبي وتفجر مظاهر تجليه والتعبير عنه، أسباب عدة منها: (1) الإحساس بالظلم الفادح الذي قوع على القطاع، وعلى حركة حماس التي تعاقب ويعاقب شعبها لـ"فوزها" الساحق في الانتخابات....(2) الكفر بالغطرسة الإسرائيلية المنفلتة من عقالها، والمدعومة بانحياز أمريكي فيه من الصلف والغباء الشيء الكثير...(3) تصدر الحركات الإسلامية وتزعمها لكثير من الشوارع، وهي قوى نافذة ومتضامنه مع قوة شقيقة تقود المواجهة في غزة: حماس....(4) وجود قناعة عند كثير من القوى الشعبية، الإسلامية والقومية واليسارية، التي حركت الشوارع وقادتها، بأن حماس لم تغرق في أوحال الفساد وأنها عرضة للتآمر والنبذ من قبل الشقيق والصديق، ما حرك مشاعر "النخوة" عند كثيرين، خصوصا من العرب والمسلمين.
خلاصة القول: أن القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، برهنت بأنها جوهر صراعات المنطقة ولبها، وأنها ليست تفصيلا ثانويا يندرج في سياق الصراع بين معتدلين ومتطرفين، أو تحت عباءة الملفات الإيرانية المتشعبة والمتعددة، والأهم أنها وحدها دون سواها، تمتلك القدرة على استنهاض كل هذا الحراك الجماهيري، الأمر الذي "ينسف" من الأساس، الفلسفة التي قامت عليها نظرية المعسكرين: "المعتدلين والمتطرفين"، والتي تقوم على أساس تضاؤل التهديد الإسرائيلي مقابل تفاقم التهديد الإيراني، وتفترض ضم إسرائيل لمعسكر الاعتدال العربي في مواجهة العدو المشترك: إيران وحلفائها.
كل هذا يرتب على القيادة الفلسطينية بجناحيها، الكثير من التبعات والمسؤوليات، حيث يتكشف انبعاث حركة التضامن الدولية مع فلسطين، عن دروس لا بد من أخذها بنظر الاعتبار، في رام الله كما في غزة.
في رام الله، يتعين ومن دون إبطاء تشكيل "لجنة فينوغراد فلسطينية" تبحث في المسؤولية عن الفشل والتقصير والارتباك في إدارة المعركة، وفضح "الجوقة" التي ألحقت بسلوكها ومواقفها، ضررا فادحا بصورة المنظمة ومكانتها وموقعها، خصوصا "العباقرة" منهم، الذين خرجوا علينا بالأمس بقرار "وقف المفاوضات طالما ظل العدوان مستمرا"، وهو قرار مخجل ومثير للسخرية، إذ تزامن مع تصريحات أردنية تلوح بإعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل، وإذ تجاهل ما يعرفه القاصي والداني بأن المفاوضات: (1) متوقفة أصلا بسبب انشغال المفاوض الإسرائيلي بالانتخابات المبكرة بداية وبإدارة الحرب المجنونة على غزة المتواصلة لليوم الحادي عشر...(2) أن القرار المذكور سيذهب جفاء مع صدور أول "مذكرة جلب" من أولمرت أو باراك أو ليفني لمن اتخذه، فأصحاب هذا القرار لم يتخلفوا مرة عن المثول أمام "نظرائهم" من الإسرائيليين، وليس ثمة ما يدعو للاعتقاد بأنهم سيفعلونها مستقبلا، بدلالة منطوق قرارهم ذاته.
أما بالنسبة لحماس، فإن عليها أن تتعلم الشيء الكثير من "دروس التضامن" التي تكشف عنها الغضب الشعبي الدولي العارم، أولها ضرورة الانزياح نحو خطب "وطني" أكثر وضوحا، بدل التركيز على خطاب "فصائلي طافح بالإيديولوجيا"، فحركات التضامن شديدة التنوع، وثمة حاجة لبناء جسور سياسية وثقافية وفكرية معها، وثانيها إيلاء هذا الملف قدرا أكبر من الاهتمام والتركيز، خصوصا إن قدر لحرب "الرصاص المصهور وبقعة الزيت" أن تنتهي بتعاظم مكانة الحركة في قيادة الشعب الفلسطيني، وهذا الأمر وإن كان ممكنا ومرجحا، إلا أنه سيظل رهنا بتطورات المعركتين السياسية والعسكرية اللتين تديرهما حماس الآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق