الأربعاء، 7 يناير 2009

وصمدت المقاومة..... بقلم: د. عبد الستار قاسم

منذ البدء، كتبت في مقالي المعنون "معركة غزة" أن المقاومة ستصمد، وهذا هو الإنجاز. هناك من تحداني كتابة وشفاهة، وقال بأن غزة عبارة عن لقمة سهلة البلع، وإن "المشايخ" (يعني حماس والجهاد) لا يعرفون بالحروب. وهناك من استهزأ قائلا بأن أساتذة الجامعات يبنون صروحا من خيال، وغالبا تسيطر عليهم مصالحهم الشخصية. ردود الفعل ذاتها تلقيتها عندما توقعت عام 2006، وبعد بداية الحرب على حزب الله بثلاثة أيام، بأن حزب الله سينتصر، بمعنى أنه سيصمد، وستفشل إسرائيل في حملتها العسكرية. وقد وصفني أحد المحللين الأجانب في حينه بأنني أستاذ جامعي جاهل لا يعرف إسرائيل.
هناك من يحسب الإنجاز العسكري أو الفشل بالخسائر التي يوقعها طرف بآخر. المعارك حقيقة لا تقاس بالخسائر وإنما بالنتائج. كل شعوب الأرض التي وقعت تحت الاستعمار أو الاحتلال وقعت بها خسائر كبيرة تفوق الخسائر التي تكبدتها قوة الاحتلال بمرات، لكن الشعوب انتصرت في النهاية. إسرائيل تقصف الآن وتقتل المدنيين وتهدم البيوت، لكن هذا لا يعني أنها تحقق انتصارا. انتصارها في هذه الحرب يعني القضاء على المقاومة، وإسقاط حماس وتغيير الوضع السياسي القائم في غزة.
إذا كنت تعرف الرياضيات والعلاقات الجدلية، يسهل عليك فهم الحاضر وتنبؤ المستقبل إلى حد لا بأس به. ودائما رأيي بأن الذي لا يعرف بالرياضيات ولا بالعلاقات المنطقية الجدلية بين الظواهر، ولا يستطيع الربط الجدلي بين السلوكيات المختلفة عليه أن يبتعد عن السياسة. الذي تنقصه هذه المعرفة لا يستطيع أن يكون سياسيا ناجحا، أو قائدا مظفرا، أو محللا مصيبا. ساسة اليوم في الوطن العربي لا علاقة لهم بالعلم، فكيف تكون لهم علاقة بالرياضيات والمنطق؟ وهذا شأن "محللين سياسيين" كثر، وهم لا يتقنون حقيقة سوى المهاتاة.
ظنت إسرائيل أن ضربتها الترويعية الأولى، والتي أظهرت قصورا لدى حماس، ستزعزع أركان المقاومين الفلسطينيين، والسيطرة على غزة ستكون بعد ذلك سهلة. امتصت المقاومة الضربة الأولى، وردت بصواريخ ذات مدى معروف لدى إسرائيل. فانتقلت إسرائيل إلى سياستها الحربية المعهودة وهي استعمال الطيران ضد ما يظن أنه أهداف عسكرية، ومن ثم ضرب المدنيين والأهداف المدنية لإركاع العسكريين، وما زالت حتى الآن تصب حممها على رؤوس الأطفال والنساء.
أخذت إسرائيل تتبع تكتيك جس النبض بعد أن تأكدت من خلال صواريخ أبعد مدى مما توقعت وذلك من أجل أن تعرف ماذا أعد الفلسطينيون للمواجهة. دخلت المناطق غير المأهولة في غزة، وحاولت دخول أطراف تجمعات سكانية. وواضح أن المقاومة الفلسطينية تصرفت بذكاء بحيث أنها لم تكشف عما تمتلكه من أسلحة دفعة واحدة، وبقيت محتفظة بمفاجآت للجيش الصهيوني فيما إذا قرر دخول المدن بمدرعاته. التكتيك الإسرائيلي فشل، والتكتيك الفلسطيني بقي متماسكا. هذا فضلا عما تلاقيه إسرائيل من هجمات إعلامية وسياسية بسبب مناظر الأطفال والبيوت المدمرة على رؤوس أصحابها.
باتت إسرائيل متيقنة بأن المقاومة الفلسطينية قد دخلت مرحلة جديدة من التفكير العلمي والعمل المبرمج وفق أسس علمية، وأن ذلك الماضي الذي استند إلى الارتجالية والفهلوة قد مضى وانتهى؛ وأصبحت على يقين بأن قدراتها العسكرية الهائلة لم تبلغ خنادق المقاومين، ولا حتى منصات صواريخهم. ولهذا لم يعد هدف تغيير الوضع القائم في غزة قائما، وبدأت الأهداف تتقلص إلى أن وصل الأمر الآن إلى مراقبة الحدود مع مصر لمنع التهريب.
إسرائيل ستستمر في ضربها لغزة لأيام أخر، وستحاول من جديد تحقيق ما عجزت عنه، ولكن لا يوجد أمامها إلا خيار واحد وهو دخول المدن بخاصة غزة وخان يونس ورفح. هل تجرؤ على ذلك؟ تقديري أنها ستحاول من جديد المس بأطراف المدن، لكنها ستكون على قدر كبير من الغباء إن دفعت بدباباتها إلى داخل التجمعات السكانية. إن فعلت، فستجد الفلسطينيين يخرجون لها من تحت الأرض، وسيشتبكون بقوة وشراسة مع قواتها، وستكون الدائرة على جنودها. لكن هل من المحتمل أن تلجأ إسرائيل إلى أسلحة الدمار الشامل فتضرب غزة؟ في هذه المرحلة، من المستبعد أن تفعل ذلك. لكن إسرائيل تدرك الآن أن وضعها العسكري قد اهتز مرة ثالثة (مرتان أمام حزب الله)، وأن التطورات العسكرية في المنطقة تسير عكس مشتهاها.
عن ماذا يبحثون الآن؟ من الملاحظ أن مشروع القرار المصري لمجلس الأمن والخاص بوقف إطلاق النار قد أقر ضمنا بالمقاومة الفلسطينية، وبالتحديد بحماس، كقوة موجودة على الساحة وتفرض نفسها بإنجاز عسكري صمودي واضح في مواجهة إسرائيل. ولا أظن أن أمريكا تختلف مع مصر في هذا الأمر، والمسألة تتلخص في خلاف حول كيفية خروج إسرائيل بإنجاز عسكري ما. من المحتمل أنهم يحاولون إعطاء إسرائيل بعض الوقت من أجل تحقيق إنجاز عسكري بسيط لكي يتلاءم مع أهداف إسرائيلية بسيطة.
عهدنا بالدول الغربية وأمريكا خاصة بانها تحرص على اتخاذ قرار بوقف النار في مجلس الأمن بعدما تكون إسرائيل قد حققت اختراقا عسكريا؛ وتحاول البحث عن تنازل ديبلوماسي من الطرف الآخر فيما إذا عجزت الآلة الإسرائيلية عن تحقيق اختراق.
حاولت هذه الدول البحث عن حفظ ماء وجه إسرائيل عام 2006، لكن رفض حزب الله انتهى بها إلى قرار هزيل وهو القرار 1701، والذي لا يلزم حزب الله بشيء من الناحية العملية. وربما الآن سيبحثون عن قرار ينص على إجراءات لمنع التهريب عبر الحدود الافتراضية بين مصر وفلسطين، وهذا قرار لا قيمة له لأن التهريب ممنوع أصلا من جانب الحكومة المصرية.
أشير هنا إلى أن معركة غزة معركة تاريخية، وهي أول معركة تدور بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية على أرض فلسطين. هذا تطور تاريخي عظيم، وله عبره وتبعاته التي سأناقشها لاحقا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق