الاثنين، 12 يناير 2009

"خطايا" حماس الثلاث .... بقلم عبد العزيز كحيل

ما زال كثير من الناس يستغربون موقف الأنظمة العربية من حماس وبالتالي من سلبيتها تجاه مجزرة غزّة، والحقيقة أن حركة المقاومة الإسلامية ارتكبت في أعين هذه الأنظمة ثلاث "خطايا" لا يمكن أبداً أن تقبلها أو تتعايش معها هي:

- المرجعية الإسلامية.

- خيار المقاومة.

- الوصول إلى السلطة عبر العملية الديمقراطية.

وإن كل واحدة من هذه "الخطايا" تستفزّ هذه الأنظمة و تقض مضجعها فكيف اجتمعت كلّها؟



فالمرجعية الإسلامية التي تتبنّاها حماس بوضوح وصراحة على طرفي نقيض مع المرجعية العلمانية التغريبية التي تتبعها الأنظمة العربية _حتى تلك التي تزعم في شعاراتها أن دستورها القرآن_ بل هي في نظر "النظام العالمي الجديد" ظلامية وتزمّت وتطرّف يجب محاربته بلا هوادة، ولذلك عمدت هذه الأنظمة إلى تجفيف منابع التديّن عبر ما يسمّى بتجديد الخطاب الديني وتغيير المناهج التربوية وإغراق الساحة الإعلامية بمزيد من الوسائل (وخاصة الفضائيات) التي تحارب بدهاء ومكر هذه "الظلامية" وهذا "التزمّت والتطرّف" وتمكن لقيم "التسامح والتفتّح والتنوير" والقيم "الإنسانية والعالمية"، وقد طرأت بعد 11 سبتمبر 2001 تغيّيرات جوهرية على المناهج الدراسية استبعدت كثيراً من الرموز والمفردات الإسلامية مثل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتناول الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومثل سيرة أبطال الإسلام كخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح، وامتدّت هذه التغييرات لتشمل معاني عقدية كالولاء والإيمان والكفر وفسحت المجال لمعانٍ جديدة يطعم بها النشء كوحدة الأديان والأخوّة الإنسانية والسلم العالمي وهي لا تدرس ببراءة وإنما توجه توجيها فكريا يهدف إلى إحلالها محل ثوابت الأمة العقدية والفكرية والنفسية ،وانتهى الأمر إلى منع خطباء المساجد –بدءا بالحرمين الشريفين- من الدعاء على اليهود ومناصريهم من الصليبيين الجدد إلا بإذن من الجهات الرسمية !!!

في هذا الجو ''التجديدي'' الذي يبشر بشرق أوسط جديد تتشبث حماس بالخطاب الإسلامي الدعوي الواضح وترفع شعارات الإخوان المسلمين –العدو الأول لكثير من الأنظمة العربية وهاجس شرم الشيخ الأكبر- وينذر حكمها لغزة بقيام النظام الإسلامي الذي لا يمكن بحال أن تقبله العلمانية العربية العدوانية ولا راعيها الدولي لأنه يعني اتساع رقعة التدين وانحسار مظاهر ''التسامح'' كالملاهي والخمارات ودور القمار ،وأول من يتضايق من هذه ''الأسلمة'' –إذا جاز التعبير- هو السلطة الفلسطينية في رام الله المنسجمة مع شقيقاتها العربية والتي كان أول مشروع اقتصادي أنجزته بعد قيامها هو فتح نادي كبير للقمار والزنا(باسم السياحة طبعا) في حيفا!

لا بد أن يفهم الجميع إذاً أنّهم لا يرفضون حماس بسبب ممارستها ولكن بسبب مرجعيتها التي يحاربها النظام الدولي بتنسيق علني مع النظام العربي الرسمي حتى لا تبقى أيّة فرصة لعودة الخلافة وتطبيق الحدود الشرعية "الهمجية" ورفض الهيمنة الحضارية الغربية، فحماس مستهدفة في فلسطين مثل الإخوان في مصر وسوريا وليبيا والنهضة في تونس والإصلاحيين في السعودية...ولنفس الأسباب.

بالإضافة إلى المرجعية الفكرية تنقم الأنظمة العربية _والصهاينة بطبيعة الحال_ على حماس انحيازها إلى خيار المقاومة من أجل تحرير فلسطين ورفضها للمفاوضات العبثية مع اليهود التي طال أمدها ولم تؤتِ من النتائج نقيراً ولا قطميراً، وقد جعل منها الحكام العرب الخيار الاستراتيجي الوحيد وأفتى لهم بذلك أصحاب العمائم المدجنون وروّج لها دعاة التطبيع مستسلمين للأمر الواقع ومذعنين للمطالب الأمريكية والصهيونية بتقديم المزيد من التنازلات، وقد أجمع على "الحل السلمي" الأنظمة العربية قاطبةً فأقامت العلاقات المختلفة مع دولة الاحتلال الصهيوني بعضها بصفة رسمية وكثير منها بصفة شبه رسمية، وتنادت بالأخوة العربية-العبرية، فكان من الطبيعي أن يبرز عدم الانسجام بينها وبين حماس باعتبارها صوتاً نهازاً وعامل إعاقة لعملية السلاح وعنصراً مشوشاً بامتياز خاصة وأن الجميع يعلم أن الرأي العام العربي يتبنى في معظمه رؤية الحركة ويتعاطف معها ويكره كل حديث عن التنازل لليهود والتفاهم معهم، ولا تزيد الأيام وسير المفاوضات والاعتداءات الصهيونية غير المنقطعة حركة المقاومة الإسلامية إلاّ نفوذاً ومصداقيةً على حساب الأنظمة العربية وأطروحاتها، وهذا استفزاز واضح لها يجلب لها مزيداً من النقمة الشعبية فما منها سوى أن ناصبت "حماس" العداء وجعلت من القضاء عليها عاملاً استراتيجيا في عملية التسوية وشرطاً لازماً لكبت المعارضين للسياسات الرسمية وضمانة لعدم التشويش على مسار التنازل عن فلسطين وبيع مقومات السيادة، ولا يجهل مراقب عاقل أن حركة فتح انضمّت إلى الجوقة العربية المستسلمة وغدت خصماً لدوداً لحماس وانتقلت من حركة للتحرير إلى هيئة للتبرير والتزوير، وكان من الطبيعي أن يكون موقف فتح هو موقف سلطة رام الله التي انبطحت تماماً أمام العدو الصهيوني وتخلّت عن ثوابت القضية الفلسطينية وأصبحت هي الأخرى تعتبر المقاومة إرهاباً يحب التخلّص منه بأي ثمن حتّى بالتنسيق مع تل أبيب، وفي هذا الإطار تمّ اغتيال الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وغيرهما.

أما خطيئة حماس الثالثة فهي فوزها في انتخابات حقيقية وتسلّمها السلطة على هذا الأساس، وهذا شيء يزعج الأنظمة العسكرية والبوليسية أيما إزعاج لأنه يفضحها زيقزمها أمام شعوبها المقهورة وأمام الرأي العام العالمي لأنها قامت على توارث الحكم والانقلابات والرئاسة مدى الحياة وتحكم الأقلية (القبيلة، الطغمة، الحاشية، الحزب الواحد) في كل مفاصل حياة البلاد ثم أبدعت نظاماً سياسياً فريداً هو "الجمهوريات الوراثية"، فالديمقراطية عدوها الألدّ لأنها تعني ببساطة زوالها المحتوم لذلك لا تقبل بأية تجربة ديمقراطية حقيقية خاصة إذا أوصلت الإسلاميين إلى السلطة، لذلك تستعين هذه الأنظمة بفقهائها الذين يفتون بأن الديمقراطية كفر ويبررون الاستبداد "خشية الفتنة" كما يزعمون ويدعون للزعماء " الملهمين " بطول البقاء مع علمهم أن من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه

ولقد أقلق فوز حماس في الانتخابات الأنظمة العربية المستبدة فكالوا لها أوصاف "الإمارة الظلامية" وألبوا عليها العالم "الحر" لأنها امتداد لإيران وحزب الله ! وأول من ضاق ذرعاً بفوز حماس هو سلطة رام الله التي اعتادت مثل نظراتها العربية الحكم المطلق المبني على شراء الذمم والفساد المالي فلم تذعن لحكم الصندوق وناصبت الفائزين العداء واستقوت باليهود والأمريكان على الحكومة المنتخبة حتّى حدث ما حدث.

هذه هي "الخطايا" التي لا يمكن أن ينساها النظام الرسمي العربي لحماس، لكن هي في الحقيقة ليست نقاط ضعف عند الحركة بقدر ما هي نقاط قوة في إطار العمل المستقبلي الذي يتجاوز السلطات الحاكمة في وضع إستراتيجية التغيير والتحرير ويعتمد على الجماهير كقوة أساسية يحركها المجتمع المدني الحي والنخب المتشبعة بالأصالة والمتحررة من عقدة الانهزام النفسي أمام الغرب والصهاينة ،وهذا ما يدركه الخصوم جيدا ولذلك ينتظرون من العدو الصهيوني أن يجهز على حماس حتى يستريحوا جميعا حاضرا ومستقبلا،وها هي معركة غزة تؤكد أنهم واهمون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق