الاثنين، 5 يناير 2009
سقطة 'الوسيط' ساركوزي! بقلم : عبد الباري عطوان
خيّب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي آمال مئات الملايين من العرب والمسلمين يوم امس عندما كشف عن انحيازه الكامل للمجازر الاسرائيلية المتواصلة في قطاع غزة حيث وجه اللوم الى الضحية، واعفى الجلاد الاسرائيلي من اي نقد حقيقي. الرئيس ساركوزي اكد في تصريحاته التي ادلى بها امس، اثناء توقفه في رام الله، في بداية جولته الحالية، السقوط الاخلاقي لهذا الغرب الحضاري الديمقراطي، عندما لم يتردد لحظة في تحميل حركة حماس المسؤولية عما يحدث حاليا في قطاع غزة بقوله 'انها تصرفت بشكل غير مسؤول لا يغتفر بقرارها رفض تمديد التهدئة، واستئناف اطلاق الصواريخ على الدولة العبرية'. امر مخجل ان يسقط الرئيس الفرنسي الذي يمثل دولة الحريات وقيم الانتصار للعدالة والضعفاء، هذه السقطة، في وقت تنقل الينا عدسات التلفزة العالمية صور عشرات الاطفال وقد مزقت اجسادهم الصواريخ الاسرائيلية. الرئيس ساركوزي لم يذهب الى المنطقة في مهمة سلام، او لوقف اطلاق النار، مثلما ادعى، وانما لكي يعطي اسرائيل غطاء اوروبيا لاكمال 'الهولوكوست' الذي بدأته قبل عشرة ايام ضد اناس محاصرين مجوّعين وعزل. فصول المؤامرة تتضح يوما بعد يوم، فبعد الصمت الغربي المريب، ومنع مجلس الامن الدولي من قبل امريكا والدول الاوروبية دائمة العضوية فيه من اصدار اي قرار يدين العدوان الاسرائيلي ويطالب بوقفه، ها هو الرئيس الفرنسي يختار منبر السلطة الفلسطينية في رام الله ليعلن ان حركة حماس 'تتحمل مسؤولية كبيرة عن معاناة الفلسطينيين في غزة' ،وهو صك براءة من زعيم احدى دول التحالف الغربي لاسرائيل، لاعفائها من اي مسؤولية او لوم، وصك ادانة للضحايا.. هذا هو النفاق الغربي الذي اوصل العالم الى هذا الوضع المأسوي الذي يعيشه، بدءا من تصاعد اعمال العنف والارهاب وانتهاء بالانهيار الاقتصادي الشامل. من الواضح ان الحكومة الفرنسية تؤيد هذه المجازر الاسرائيلية، بعد ان اطلعت على الاهداف التي تسعى حكومة تل ابيب لتحقيقها اثناء زيارة السيدة تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية الى فرنسا يوم الخميس الماضي. فبعد هذه الزيارة الخاطفة تغير الموقف الرسمي الفرنسي كليا، وانقلبت جولة ساركوزي من مهمة سلام ووقف الحرب، الى مباركة لها واعطاء الحكومة الاسرائيلية كل الوقت والدعم للمضي قدما فيها، حتى تحقق اهدافها كاملة. الهدف الاساسي من هذا العدوان ليس وقف اطلاق الصواريخ، وانما 'تغيير النظام' في قطاع غزة، اي اطاحة حكومة 'حماس' واعادة القطاع برمته الى بيت طاعة السلطة في رام الله. اسرائيل تسير على خطى معلمها الامريكي، فطالما ان ادارة الرئيس بوش نجحت في تغيير نظامي العراق وافغانستان، تحت ذريعة انهما نظامان دكتاتوريان، فما المانع ان تغير اسرائيل حكومة منتخبة بصورة ديمقراطية في اقتراع حر في قطاع غزة؟ الحكومة الاسرائيلية اتخذت من اطلاق الصواريخ ذريعة للاقدام على هذه الخطوة، بتضخيم حجم اضرارها، لانه لا توجد لديها اي ذرائع اخرى، فلا توجد مقابر جماعية في قطاع غزة، ولا يوجد اي تنسيق بين حركة 'حماس' وتنظيم القاعدة، ولم تستطع المخابرات الامريكية او نظيرتها الاسرائيلية فبركة اي علاقة بينها وبين احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر). اسرائيل استخدمت اساليب الحصار والتجويع لتركيع أهل القطاع، ودفعهم الى الثورة ضد الحكومة، وعندما فشل هذا الاسلوب اللا اخلاقي المعيب، لجأت الى الهجوم الجوي، وعندما فشل هذا الهجوم في ترويع قادة حماس، وحركات المقاومة الاخرى ودفعها الى الاستسلام ورفع الرايات البيضاء تمّ اللجوء الى الغزو البري. تغيير النظامين في العراق وأفغانستان لم يحقق النصر للادارة الامريكية والتحالف الغربي الذي دعم حروبها، بل اوقعهم في حرب استنزاف مادية وبشرية لا أحد يتنبأ كيف ستنتهي. وتغيير النظام في قطاع غزة ان تم بالقوة العسكرية، وعلى جثث المئات، وربما الآلاف من الاطفال والمدنيين، وهذا ما نشك فيه، فانه لن يحلّ مشكلة الصواريخ، ولن يوقف المقاومة، بل ربما يجعلها اكثر شراسة، تماماً مثلما حصل في العراق وافغانستان، وسيجعل اسرائيل تغرق في مستنقع غزة وبحرب دموية استنزافية، ستهرب منها مهزومة ورافعة الراية البيضاء. تجارب الحروب الاسرائيلية الاخيرة، سواء ضد منظمة التحرير (اجتياح عام 1982) او ضد حزب الله (صيف 2006) وقبلها (حرب الحزام الامني) كشفت ان اسرائيل تخرج دائماً من هذه الحروب اضعف سياسياً وعسكرياً في الوقت نفسه، ومحاولة قلب هذه المعادلة في الهجوم على قطاع غزة 'الخاصرة' الاضعف في 'تحالف الشر'، حسب التوصيف الامريكي، مقامرة كبيرة قد تأتي بخسائر غير محسوبة بل وغير متوقعة. احتلال غزة أمر مكلف.. والبقاء فيها امر اكثر خطورة، وعودة سلطة رام الله على ظهر الدبابات الامريكية امر مستبعد، ونفى ذلك السيد محمود عباس صراحة في مؤتمره الصحافي امس، اللهم إلا اذا كانت هذه السلطة تريد ان تستعيد تجربة 'حكومة فيشي' التي نصبها النازيون لحكم فرنسا تحت احتلالهم، ولن نستبعد ان يحاول السيد ساركوزي تسويق هذه الفكرة اثناء توقفه في رام الله بايعاز اسرائيلي. اسرائيل ربما تكسب عسكرياً، لأنها تخوض حرباً من طريق في اتجاه واحد وضد عدو ضعيف جداً، محاصر ومعزول ومقطوعة كل طرق امداداته، حتى الطبية منها. ولكنها تخسر دبلوماسياً واخلاقياً وسياسياً. فقد بات العالم يشاهد جرائمها في صور الشهداء الاطفال وأجسادهم الممزقة. التعتيم الاعلامي الاسرائيلي، ومنع الصحافيين من دخول قطاع غزة لتغطية الوقائع على الأرض، وهو امر لم يحدث في عهد صدام حسين الذي يتهمه الغرب بالديكتاتورية، لن يحول دون وصول الحقائق الى الرأي العام العالمي. وما يؤلمنا ان هذا الاعلام الغربي الذي يعطينا دروساً في المصداقية والموضوعية الصحافية يصمت على هذه الاهانة، بل وينحاز في معظمه الى هذه 'الدولة الديمقراطية' (من منظورهم) التي تمارس المنع لاخفاء مجازرها. خيبة أمل كبرى أخرى تتمثل في موقف الرئيس الامريكي المنتخب باراك اوباما الذي صمت عن المجازر الاسرائيلية، بحجة الالتزام بالبروتوكول، وتكرار القول انه لن يعلق على أحداث غزة لأنه يوجد رئيس واحد في امريكا. اوباما نسي انه خرج عن هذه القاعدة عندما لم يتردد في ادانة الهجوم الدموي في مومباي بأكثر العبارات شدة. كل القواعد تتغيير عندما يكون الجلاد اسرائيلياً ويكون الضحية عربيا او مسلما. اسرائيل لن تنجح في تغيير النظام في غزة، اللهم الا اذا غيرت الشعب الفلسطيني من سكان قطاع غزة، واستبداله بشعب آخر، ويبدو انها بدأت هذه المهمة بحرب الابادة والتطهير العرقي التي تشنها حالياً.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق